أوروبا… إذا خسرت حرب أوكرانيا

حصل اتّفاق لوقف النار في أوكرانيا أم لم يحصل. ليست تلك المسألة. المسألة تتلخّص بقدرة أوروبا على استعادة موقعها على الخريطة الدولية بعدما قرّر الرئيس دونالد ترامب قلب التحالفات التقليدية التي قامت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إنّها في الواقع تحالفات أُسِّست خلال الحرب بعدما جمعت الرغبة في الانتصار على ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانيّة بين أميركا وأوروبا وصولاً إلى خوض الحرب الباردة معاً في مرحلة لاحقة.

 

تبدو أوروبا ضحيّة الانقلاب الذي نفّذه ترامب والذي جعل منه حليفاً لفلاديمير بوتين الطامح إلى استعادة أمجاد الاتّحاد السوفياتي. القضيّة قضيّة أوهام بأوهام، لا لشيء سوى ذلك، لأنّه لا وجود لأمجاد اسمها أمجاد الاتّحاد السوفياتي. هناك مآسٍ خلّفها الاتّحاد السوفياتي الذي مارس القهر في الداخل الروسي وفي كلّ جمهوريّة كان يتألّف منها الاتّحاد، إضافة إلى دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الثلاث (ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا) التي لم تعرف كيف تتخلّص من الاستعمار السوفياتي الذي يبدو أنّ الرئيس الأميركي يريد محو أيّ تذكير به، بل محو تلك الحقبة من تاريخ البشرية من ذاكرته ومن الذاكرة العالميّة!

ليست أوكرانيا وحدها التي خسرت الحرب مع روسيا. هذا ما يبدو ظاهراً، خصوصاً بعدما بدأت القوّات الروسيّة تحقّق تقدّماً على جبهة كورسك حيث كانت تمتلك أوكرانيا ورقة مهمّة بسيطرتها على أرض روسيّة. من خسر الحرب، في حال بقيت الأمور على حالها، هو القارّة الأوروبيّة. ستكون كلّ دولة من دول القارّة العجوز مهدّدة في حال استطاعت روسيا فرض الاستسلام على أوكرانيا. مثل هذا الاستسلام يعني موافقة دونالد ترامب على احتلال الأراضي الأوكرانيّة بالقوّة بدعم وتواطؤ من الولايات المتحدة التي أخرجها دونالد ترامب من كلّ ما آمن به العالم الحرّ من مبادئ. سمحت هذه المبادئ بالانتصار الغربي في الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989 تمهيداً لإعادة توحيد ألمانيا.

ليست أوكرانيا وحدها التي خسرت الحرب مع روسيا. هذا ما يبدو ظاهراً، خصوصاً بعدما بدأت القوّات الروسيّة تحقّق تقدّماً على جبهة كورسك

ثمرة ناضجة

من يضحك على من في اللعبة الدائرة حاليّاً بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وهي لعبة جعلت ترامب يغضّ الطرف عن مشاركة كوريا الشمالية بطريقة مباشرة في الحرب الروسية على أوكرانيا؟ ذهبت كوريا الشمالية إلى حدّ إرسال قوّات إلى روسيا للمشاركة في الحرب على أوكرانيا. لم يمنع ذلك الرئيس الأميركي من الإشادة بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، الذي أقلّ ما يمكن أن يوصف به أنّه ديكتاتور ذو أطباع غريبة.

أوكرانيا

يبدو جليّاً أنّ الرئيس الأميركي لا يعرف الكثير عن الرئيس الروسي على الرغم من وجود علاقة تفاهم في العمق أقامها معه. يدلّ على ذلك الإصرار على التعاون مع بوتين من أجل وقف الحرب الأوكرانيّة. لم يكتفِ ترامب بتجاهل أنّ روسيا باشرت الحرب على أوكرانيا في شباط 2022 بحجّة رغبتها بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو). تجاهل أيضاً احتلال روسيا لأراضٍ أوكرانيّة. ربّما أهمّ ما تجاهله الرئيس الأميركي صمود أوكرانيا في وجه العدوان الروسي ومنع “الجيش الأحمر” من احتلال كييف.

ثمّة من يجد تفسيراً لكلّ ما يقوم به دونالد ترامب، وذلك من منطلق أنّ الرئيس الأميركي يعتبر أنّ روسيا باتت ثمرة ناضجة حان قطافها أميركيّاً. المهمّ تفادي سقوط روسيا بما تمتلكه من معادن ثمينة في يد الصين. ما المشكلة إذا كانت أميركا قادرة في عهد ترامب على الحصول على المعادن التي في روسيا وفي أوكرانيا في الوقت ذاته؟

تبدو أوروبا ضحيّة الانقلاب الذي نفّذه ترامب والذي جعل منه حليفاً لفلاديمير بوتين الطامح إلى استعادة أمجاد الاتّحاد السوفياتي

كان لافتاً تذكير ترامب ونائبه جي .دي. فانس الرئيس فولوديمير زيلينسكي بما قدّمته الولايات المتحدة من مساعدات عسكرية وغير عسكرية لأوكرانيا كي تصمد في وجه الجيش الروسي. كان ذلك في اللقاء الذي عُقد بين الرئيسين الأميركي والأوكراني في البيت الأبيض. يريد ترامب مقابلاً للمساعدات التي قدّمتها بلاده لأوكرانيا، غير مدرك أنّ أميركا لم تكن تدافع عن نفسها فحسب، بل كانت تدافع عن أوروبا والحرّيّة فيها أيضاً. هل صار الدفاع عن العالم الحرّ ملفّاً مطويّاً لدى ترامب الذي يعتقد أنّ في استطاعته تطويق الصين عن طريق التقارب مع فلاديمير بوتين؟

كارثة حتميّة

ليس في استطاعة أوروبا، التي دخل معها ترامب في حرب اقتصادية، تفادي التعاطي مع الواقع الجديد المتمثّل في استعداد ترامب لأن يكون حليفاً لروسيا، غير مدرك للطبيعة الحقيقية لفلاديمير بوتين. لم يتردّد الرئيس الروسي بالاستعانة بـ “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة عندما فشل جيشه في تحقيق أيّ تقدّم في أوكرانيا. لم يتمكّن بوتين من متابعة حربه على أوكرانيا من دون الدعم الإيراني في مرحلة معيّنة.

يتبيّن كلّ يوم أنّ دونالد ترامب رجل خطير. خطره على أميركا أوّلاً وعلى حلفائها بشكل خاصّ. يتخلّى عن حلفاء مضمونين من أجل شخص مثل فلاديمير بوتين يعتقد أنّه سيكون قادراً على التلاعب بالرئيس الأميركي الحالي مثلما تلاعب في الماضي، صيف عام 2013 تحديداً، بالرئيس باراك أوباما. وقتذاك، أقنع بوتين أوباما بتفادي توجيه ضربة إلى بشّار الأسد ونظامه على الرغم من استخدام السلاح الكيميائي في حربه على الشعب السوري. تراجع أوباما عن أيّ عمل عسكري يستهدف النظام السوري البائد، على الرغم من أنّه كان حذّر من أنّ استخدام السلاح الكيميائي “خطّ أحمر”.

حصل اتّفاق لوقف النار في أوكرانيا أم لم يحصل. ليست تلك المسألة. المسألة تتلخّص بقدرة أوروبا على استعادة موقعها على الخريطة الدولية

بين حلفاء مضمونين، قرّر دونالد ترامب الاستغناء عنهم، وحلفاء غير مضمونين، قرّر الرئيس الأميركي الرهان عليهم، يُخشى أن تكون النتائج كارثة محتّمة. ما الذي يمكن توقّعه بعدما انضمّت الولايات المتحدة، بفضل رئيسها الجديد، إلى حلف “الدول المنبوذة”، وعلى رأسها كوريا الشمالية التي تستثمر في تطوير الصواريخ فيما شعبها جائع.

إقرأ أيضاً:

هل تستطيع أوروبا مواجهة التحدّي الذي باتت تمثّله الولايات المتحدة؟ الجواب أنّ مستقبل القارّة العجوز بات على المحكّ، خصوصاً إذا خسرت حرب أوكرانيا، في عالم لا يمتلك فيه رئيس القوّة العظمى الوحيدة أيّ قيم من أيّ نوع كان.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@khairallahkhai5

مواضيع ذات صلة

بعد العسكريّ والسّياسيّ… “الحزب” الدبلوماسيّ؟

بدا الشيخ نعيم قاسم، في مقابلته الأخيرة، دبلوماسيّاً يعمل في وزارة الخارجية، لا أميناً عامّاً لحزب له ما له من ثقل في لبنان، والإقليم سابقاً،…

16 آذار 2025: رسالة المختارة إلى السّويداء

تختلف الذكرى الـ48 لاغتيال كمال جنبلاط في  16 آذار هذا العام عن سابقاتها. في السنوات السابقة تحوّلت الذكرى مع الوقت إلى واحد من لائحة التواريخ…

لم ينتصر الأمويّون ولم ينهزم العبّاسيّون

شريطان مصوّران تمّ تداولهما في الأيّام الأخيرة يفتحان المجال السياسي والشعبي على عدد كبير من الأسئلة ليس أوّلها ولا آخرها: لماذا يكرهون السُّنّة؟   –…

عبدالملك باعث دولة وعمر مُصلح مسموم (3-4)

أخطاء يزيد بن معاوية أسقطت الدولة السفيانيّة في مبتدئها، فانتقلت السلطة إلى الفرع المروانيّ بقيادة مروان بن الحكم، الشخصية الإشكالية الذي كان السبب في تمرّد…