بعد عشرين عاماً على 14 آذار، ما زال الوطن وما زلنا نحن الناس على الرصيف. بدأت الحكاية هناك. صمود وصبر ثمّ إصرارٌ كبيرٌ بمواجهة الاستفزاز على أنّنا غير قادرين على التغيير.
بعد عشرين عاماً على 14 آذار يبقى الجدل في كيف تجمّع اللبنانيون كما لم يُجمَعوا من قبل ولا من بعد، في ساحة واحدة وتحت علم واحد، حين تحوّلت الأرزة من شعار فقط على علم لتصبح ثورة قال عنها الرئيس الأميركي في حينه جورج بوش “ثورة الأرز”.
حدثان أساسيّان صنعا تلك اللحظة ورسما ملامحها. استعادتهما بعد عشرين عاماً مفيدة للعبرة لأنّ تفاصيل اليوم تشبه تفاصيل ذاك اليوم بالإصرار والعزيمة على قيام الدولة وباستفزاز الآخرين بأنّنا غير قادرين على التغيير.
الحدث الأوّل: مساء 27 شباط 2005 على الرصيف المقابل لضريح الرئيس رفيق الحريري كان يجلس فارس سعيد ووائل أبو فاعور والياس عطا الله. بدأت الأخبار تتوالى عن أنّ الجيش اللبناني يضرب طوقاً حول ساحة الشهداء. إنّهم يمنعون الناس من الوصول إلى الساحة. هبّ الجميع واقفين.
كان القرار حاسماً. علينا من الآن أن نحشد الناس من أجل تظاهرة الغد. حكومة عمر كرامي يجب أن تسقط.
بعد عشرين عاماً على 14 آذار، ما زال الوطن وما زلنا نحن الناس على الرصيف. بدأت الحكاية هناك. صمود وصبر ثمّ إصرارٌ كبيرٌ بمواجهة الاستفزاز على أنّنا غير قادرين على التغيير
بدأ وائل أبو فاعور اتّصالاته مع شباب الحزب التقدّمي في الجبل، وبدأ الياس عطا الله بتحريك قوى اليسار السيادية، فيما توجّه فارس سعيد إلى المخيّم الذي نصبه طلّاب الجامعات عند تمثال الشهداء محفّزاً إيّاهم على الاتّصال برفاقهم وأحزابهم للتجمّع من الآن. الليلة كانت أشبه بالنهار نشاطاً وحيويّةً. لم نغادر حينها الساحة، ولم نترك مكان تجمّع الشبّان والشابّات. كلّ واحد منّا استحضر ناسه وقومه. كان التجمّع صبيحة هذا اليوم بالتوازي مع جلسة مجلس النوّاب. جلسنا جميعاً منصتين إلى كلمة النائب بهيّة الحريري شقيقة الرئيس الشهيد ونظرنا جميعاً إلى وجه الرئيس المرحوم عمر كرامي والأسئلة في دواخلنا تتزاحم وتزيد. رُفعت الجلسة وبعد استراحة عاد الجميع إلى القاعة. وقف الرئيس عمر كرامي وقفة رجل دولة قائلاً: “أعلن استقالة حكومتي”، فدخل بذلك بوّابة التاريخ.
الحدث الثاني: في 8 آذار، حشد “الحزب” حلفاءه قائلاً إنّ الساحة له ولأنصاره، ووقف أمينه العامّ السابق حسن نصرالله في ساحة رياض الصلح خطيباً قائلاً: “واهمون أنتم إن اعتقدتم أنّكم بعلم لبناني وشالٍ أحمر على رقابكم تسقطون أنظمة. نحن حماة النظام والحزن قد انتهى. غداً يوم عمل آخر وسيمشي القطار. أُطمئن الجميع”.
خاف المجتمع الدولي من كلام نصرالله في ذاك الحين. تراجعت وتيرة كلمات الرئيس الفرنسي جاك شيراك. بدأ الأميركي يتحدّث عن الحوار وتدوير الزوايا لإيجاد مخرج من هذا المأزق الكبير. وحدهم الناس رأوا في كلام نصرالله استفزازاً لهم، لجرحهم وآلامهم ومصابهم العظيم. هبّوا كما لم يهبّوا سابقاً، الصغير منهم والكبير، ومن كلّ حدبٍ وصوب، قائلين: إن كانت الساحة لهم فنحن لنا لبنان الكبير. ملأوا ساحة الشهداء وكلّ الشوارع المحيطة بها. صنعوا غابة داخل المدينة من الأرز العتيق. حينها أطلّ وليد جنبلاط من الخيمة المنصوبة خلف منبر المتكلّمين. نظر إلى الحشود متفاجئاً. مزّق كلمته التي قام بتحضيرها مساء وقرّر أن يصنع خطاباً جديداً فيه الكثير الكثير.
بعد عشرين عاماً، تغيّر كلّ شيء وتحقّق كلّ شيء. لم تبقَ 14 آذار كأمانة عامّة أو كلقاء سياسي كبير. بقيت كفكرة وكلحظة يتمسّك بها الناس عندما يمرّون بضريح ذاك الرجل الكبير
هذه ثورة الأرز، خارج كلّ قرار رسمي أو حزبي. هي ثورة الناس، وهي إرادتهم وعزيمتهم. هي قرار اللحظة المفاجئة. هي الثورة الكامنة في كلّ ضمير.
بعد عشرين عاماً، تغيّر كلّ شيء وتحقّق كلّ شيء. لم تبقَ 14 آذار كأمانة عامّة أو كلقاء سياسي كبير. بقيت كفكرة وكلحظة يتمسّك بها الناس عندما يمرّون بضريح ذاك الرجل الكبير. بقيت 14 آذار وصفةً وأملاً أن ليس من كبير بمواجهة إرادة الشعب وعزيمته. تحقّق كلّ ما نادت به 14 آذار، من رفع للوصاية وإسقاط للاحتلالات وسيادة للدولة واحتكارها للسلاح، ومن كونها ملجأ للّبنانيين كلّ اللبنانيين عندما يحتاجون إلى الحامي والمعيل.
14 آذار في ذكراها العشرين تعلن انتصارها ليس عبر سياسي أو قيادي أو نائب أو وزير. تعلن انتصارها عبر رجل بسيط من أبناء بيروت وقف أمام ضريح الرفيق عندما سقط الأسد الصغير في 8 كانون الأول 2024 صارخاً بأعلى صوته: يا شيخ رفيق سقط الأسد. يا شيخ رفيق لبنان بات حرّاً حرّاً طليقاً.
إقرأ أيضاً: ماذا يحمل الرّئيس إلى دارنا الوطنيّة؟
لمتابعة الكاتب على X: