أطلقت السعودية خلال السنوات الأخيرة ديناميّات، في السرّ والعلن، تفسّر الدور الذي تضطلع به هذه الأيّام لإنهاء الحرب في أوكرانيا. راكمت المواقف والسياسات في ملفّات أساسية في العالم، بدا بعضها حازماً لتثبيت نفوذ وازن في مسائل السلم والاستقرار في المنطقة والعالم. فكيف عملت على تحقيق “معجزة” هدنة تُوقف الحرب في أوكرانيا؟
منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه وقف الحرب في أوكرانيا. ومنذ أن بات الأمر يتطلّب تحرّكاً جدّياً، بما في ذلك تنظيم قمّة تجمعه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، برزت معضلة المكان والفضاء الملائمين بصفتهما حاجة عضويّة وليستا ترفاً تفصيليّاً. بدا أنّ التباعد بين موسكو وأوروبا بسبب حرب أوكرانيا، والتباعد الآخر المستجدّ بين واشنطن وأوروبا بسبب رؤيتهما لإنهاء الحرب، جعلا من عواصم القارّة العجوز نافرة، ولا توفّر البيئة الحاضنة المناسبة لورشة سلم شديدة الدقّة والحساسيّة.
لم تكن السعودية خياراً فقط. بدت أنّها حاضنة حتميّة لحدث تاريخيّ جلل. يمتلك وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان علاقات شخصية ممتازة مع رئيسَي البلدين. وقد مرّت هذه العلاقات باختبارات حسّاسة عزّزت من متانة تلك العلاقة وصدقها واستمرارها. غاب ترامب عن البيت الأبيض 4 سنوات وعاد من جديد متيقّناً من صداقة ما زال يعتبرها راسخة مع الرياض ووليّ عهد المملكة.
أطلقت السعودية خلال السنوات الأخيرة ديناميّات، في السرّ والعلن، تفسّر الدور الذي تضطلع به هذه الأيّام لإنهاء الحرب في أوكرانيا
في عهد الرئيس السابق جو بايدن، حاولت الولايات المتّحدة ممارسة ضغوط على المملكة لجرّها إلى اتّخاذ موقف متّسق مع موقف واشنطن في شأن الحرب في أوكرانيا، فلم تفلح. انتهجت الرياض وخلفها دول المنطقة العربية استراتيجية محايدة متوازنة في إدانتها المبدئية لغزو أوكرانيا من دون التموضع ضدّ روسيا. ثمّن الأوكرانيون الموقف السعودي، وتفهّم الروس وجهة نظر السعوديين. وحين حاولت واشنطن الضغط على المملكة داخل منظّمة “أوبك بلاس” لرفع إنتاج النفط من أجل خفض الأسعار والنيل من موارد روسيا، رفضت الرياض بحزم، ومن دون تردّد. ابتسم بوتين في موسكو، وأيقن، من جديد، أنّ له في الرياض صديقاً صدوقاً.
لاءات الرّياض
توافق ترامب وبوتين على اللقاء وإجراء كلّ المحادثات التمهيدية “عند صديقنا” في الرياض. كان الرئيس الأميركي قد أعلن الأمر بعد أيّام على صدور موقف سعودي حازم اتّخذ شكلاً كاد يكون جافّاً بإصدار “بيان الفجر” الشهير، في 5 شباط الماضي، بعد أقلّ من ساعة من إعلان الرئيس الأميركي خطّته بشأن غزّة، التي تقوم على تهجير أهل غزّة إلى مصر والأردن ودول أخرى، ومن إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بلهجة الواثق، أنّ تطبيع العلاقات مع السعودية ليس فقط أمراً ممكناً، بل سيتمّ تحقيقه.
قالت الرياض لصديقها “لا”. لا قبول بأيّ خطّة تُخرج الفلسطينيين من أرضهم، أينما كانت هذه الأرض. أخبرت ترامب الذي يمنّي النفس مع حليفه نتنياهو بمدّ اتّفاقات أبراهام وتوقيع صفقة تطبيع، يعتبرها تاريخية، “لا” أخرى، سبق أن قالتها في عهد بايدن، وتقولها منذ مبادرة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز عام 2002، مؤدّاها أنّ إقامة علاقات مع إسرائيل مشروطة بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
في عهد بايدن، حاولت الولايات المتّحدة ممارسة ضغوط على المملكة لجرّها إلى اتّخاذ موقف متّسق مع موقف واشنطن في شأن الحرب في أوكرانيا، فلم تفلح
سمع ترامب بعناية رسائل أصدقائه في الرياض. تدحرجت مواقفه مذّاك من أنّ خطّته كانت اقتراحاً لا يتمسّك به، وصولاً إلى تصريحه اللافت، الأربعاء، بأنّه “لن يُطرد أيّ فلسطيني من غزّة”.
وفق تلك القواعد ومعايير التعامل بين الأصدقاء جرى، في 18 شباط الماضي، لقاء لمدّة 4 ساعات بين وفدين أميركي وروسي، أشرف وزير الخارجية فيصل بن فرحان ووزير الدولة مساعد العييان على تسهيله، وتدوير زواياه، والمساعدة في توفير شروط الوفاق في نهايته. بدا أنّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي يعرف المملكة وملكها ووليّ عهده، يتحرّك على أرضيّة آمنة لأنّه يكاد يشعر بأفضليّة خبرة مع الرياض لا يمتلكها بعد نظيره الأميركي ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ومبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف. في نهاية الساعات الأربع أذاب دفء السعودية جليداً تراكم في علاقة الإدارتين، في موسكو وواشنطن، وبدا أنّ سبيل السلم قد فُتح من جديد.
تقول مصادر إنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي عبّر حينها عن غضب من تجاهل أوكرانيا في محادثات روسيا والولايات المتحدة، سمع من الرياض تطمينات صادقة. وحين ارتفعت حدّة التوتّر بعد مشهد المشادّة في البيت الأبيض، كان للرياض تواصل مع فرنسا وبريطانيا لتهيئة ظروف أخرى تفكّك العقد وتعيد ترميم ما صدّعته انفعالات الحدث. ولم تكن الرياض بعيدة عن واشنطن في إدارة كواليس سيناريوهات العودة إلى مسار السلم الذي يريده سيّد البيت الأبيض لأوكرانيا.
إنجاز عالميّ للسّعوديّة
من يعرف تفاصيل المداولات الخلفيّة يدرك أنّ خارطة طريق رُسمت بعناية من الرياض مروراً بلندن وباريس وانتهاء بواشنطن، أتاحت إعادة عقارب الساعة إلى التوقيت الصحيح. عاد الوصل بين الولايات المتحدة وأوكرانيا على أرض المملكة. التقى وفدان أميركي وأوكراني في جدّة الثلاثاء. ترك الرئيس الأوكراني وفده يجري المحادثات مستبقاً الأمر بمواقف جديدة مرحّبة بتوقيع اتّفاق مع الولايات المتحدة في شأن المعادن النادرة، والتعامل بإيجابية مع مساعي واشنطن للسلم في بلاده. وقيل إنّه خلال اللقاء الذي جمعه مع وليّ عهد المملكة، سمع كلاماً يشجّعه على الذهاب بهذا الاتّجاه.
إقرأ أيضاً: أوروبا… إذا خسرت حرب أوكرانيا
في خروج اجتماع الرياض بموافقة أوكرانيا على مقترح أميركي بوقف فوريّ لإطلاق النار مدّته 30 يوماً على جبهات القتال مع روسيا، وموافقة الرئيس الروسي (المشروطة) على ذلك لاحقاً، ما يعتبر إنجازاً في سبيل السلم العالمي يُسجّل للسعودية. وبدا في اتّصال وليّ العهد والرئيس الروسي، الخميس، أنّ السعودية تسعى إلى تبديد الشكوك وإزالة الشروط تتويجاً لجهد الوفود في الرياض أوّلاً وفي جدّة تالياً.
كانت الرياض سبّاقة خلال السنوات الأخيرة إلى تبنّي الحوار لمعالجة الملفّات بما يتناسب تماماً مع رؤى المملكة للتنمية والازدهار. تحتاج الديناميّة إلى استقرار الدوائر البعيدة والقريبة، وتسعى الرياض إلى تحقيقه، أكان من خلال “اتّفاق بكين” مع إيران، أو اقتراح التوسّط بين طهران وواشنطن، أو رعاية قمّة بين ترامب وبوتين تسبقها ورش لخفض التصعيد، وصولاً إلى السلم الكامل في أوكرانيا.
لمتابعة الكاتب على X: