“فتح” هي المعضلة… وهي الحلّ

صرفت القوى السياسية الفلسطينية من أكبرها إلى أصغرها جهوداً لمعالجة أوضاعها الداخلية، فاقت كثيراً الجهود التي يفترض أن تبذل في مواجهة الخصم المشترك.

في زمن الراحل ياسر عرفات، كانت الانشقاقات والانقسامات من النوع الذي أمكنت السيطرة عليه، تارة بالاحتواء، وغالباً بالتسويات، ونادراً بعمليّات جراحية.

كانت دورات المجلس الوطني (البرلمان) تضع الخلاصات في شأن استعادة وحدة القوى والفصائل، والحفاظ على النظام السياسي الذي سمّي بجدارة نظام منظّمة التحرير.

وبفعل ذلك نجت المنظّمة من الانقسامات، ولم تصل القوى المعترضة على قراراتها حدّ الانسحاب من شرعيّتها أو التشكّك فيها.

كان الجسم الأساسي لمنظّمة التحرير محتفظاً بعافيته وتحالفاته وشرعيّته، وأمّا القوى المعترضة فكانت عديمة القدرة على توفير شرعية موازية أو بديلة، إذ لم تحصل على مكانة تداني مكانة المنظّمة الأصليّة، حتى عند الدول التي كانت ترعى الانشقاقات وتنفق عليها.

غير أنّ ما جعل الانقسامات والانشقاقات خطراً وجوديّاً على الحالة الفلسطينية، هي انشقاقات “فتح” التي كان أكبرها وأشدّها فتكاً بالجسم الوطني الفلسطيني ذلك الانشقاق الذي وقع في عام 1982، والذي كاد يُنهي “فتح” والمنظّمة معاً، من خلال دعم دول عربية وازنة له، ومن خلال الحياد الانتهازي الذي مارسته الدولة السوفيتية التي كانت هي ومنظومتها الاشتراكية بمنزلة القوّة العظمى والسند الدوليّ الأهمّ لمنظّمة التحرير وخياراتها.

في زمن الراحل ياسر عرفات، كانت الانشقاقات والانقسامات من النوع الذي أمكنت السيطرة عليه، تارة بالاحتواء، وغالباً بالتسويات، ونادراً بعمليّات جراحية.

العمود الفقريّ

تغلّبت “فتح” بقيادة ياسر عرفات ورفاقه المؤسّسين التاريخيين على كلّ الانشقاقات التي حدثت فيها، وتمّ حصر المنشقّين في زاوية ضيّقة، بحيث لا تأثير لهم في المسارات السياسية لـ”فتح” والمنظّمة، وربّما كانت مصادفة تاريخية بدت في حينها مفارقة أن يقوم العاهل الأردني الحسين بن طلال بإنقاذ “فتح” والمنظّمة، حين سمح بعقد المجلس الوطني الفلسطيني في عمّان، بعدما امتنعت دول عديدة عن عقده في عواصمها، خشية اتّهامها بالتماهي مع الانشقاق والانحياز لـ”فتح” والمنظّمة وياسر عرفات.

كان كثيرون، باستثناء الحسين بن طلال، ينتظرون رؤية الخلاصات النهائية للانشقاق، مع أنّهم كانوا في سلوكهم وقرارة أنفسهم يفضّلون انتصار عرفات في نهاية الأمر.

على الرغم من تجاوز الانشقاق الكبير الذي وقع بعد الخروج الأكبر من أهمّ الجغرافيات المحيطة بفلسطين، لم تختفِ آثاره من حياة الحركة الوطنية، التي كانت “فتح” عمودها الفقري، وبوسعنا تصوّر كيف يكون حال جسدٍ فقد ولو بعض فقرات منه.

بدأت في حياة الفلسطينيين مرحلة جديدة مختلفة كليّاً عن المراحل التي مرّت بها القضيّة منذ بداياتها. كان ذلك حين وافقت منظّمة التحرير بقيادة “فتح” ومن معها من الفصائل على الحلّ السياسي عبر تفاهمات واتّفاقات أوسلو، فنشأت في فلسطين وعلى مستوى الطبقة السياسية حالة ملتبسة قوامها أنّ المعترضين على أوسلو مارسوا ازدواجية في الموقف والسلوك. وفي هذا الشأن تساوت مواقف الجميع، بما في ذلك حركة “حماس” التي وجدت صيغة للتعامل مع أوسلو بقبول مزاياها والاعتراض عليها برفض ما رأته أو سوّقته خيانةً أقدم عليها غيرها.

كان كثيرون، باستثناء الحسين بن طلال، ينتظرون رؤية الخلاصات النهائية للانشقاق، مع أنّهم كانوا في سلوكهم وقرارة أنفسهم يفضّلون انتصار عرفات في نهاية الأمر

ازدهرت “فتح” خياراً سياسياً عمليّاً سِمَتُهُ الواقعية، وذلك من خلال الزخم الإيجابي الذي وفّرته بدايات أوسلو على الأرض، بتأسيس السلطة الوطنية، وانفتاح أفقٍ لقيام الدولة، دون الانتباه بما يكفي إلى الاحتمالات القويّة لسقوط التجربة، ما دامت موافقة إسرائيل عليها مرهونة بانتقال صوت واحد في الكنيست من الموافقة إلى المعارضة، وهذا ما حدث فعلاً.

انتقلت الحالة الفلسطينية من الهجوم، إذا ما اعتبرنا قيام السلطة والتفاوض حول قيام الدولة هو هجوم، إلى الدفاع عمّا بقي من أوسلو، والدفاع الأصعب عن الحدّ الأدنى من مقوّمات وأساسيّات القضيّة الفلسطينية، والعمل الوطني من أجلها.

مؤتمر تأسيسيّ

انهيار أوسلو والانقلاب الذي قامت به “حماس”، وفصل غزّة عن الضفّة، والانقسامات والانشقاقات الظاهرة والخافية التي اجتاحت “فتح” بعد غياب عرفات، كلّ ذلك أوصل القضيّة والشعب وقيادتهما الشرعية والمدّعاة إلى ما هم فيه الآن من ضعفٍ وتشرذمٍ لا مبالغة في وصفهما بالنكبة الثانية التي توازت بخطورتها مع النكبة الأولى في عام 1948.

ازدهرت “فتح” خياراً سياسياً عمليّاً سِمَتُهُ الواقعية، وذلك من خلال الزخم الإيجابي الذي وفّرته بدايات أوسلو على الأرض، بتأسيس السلطة الوطنية

“فتح” التي كانت منذ انطلاقتها في عام 1965، وإلى أن توغّلت عميقاً في التسوية السياسية المباشرة مع الخصم الإسرائيلي، هي العمود الفقري للحالة الفلسطينية في كلّ مراحلها، وذلك لو بقيت كما كانت، واحدةً موحّدة، ووثيقة الصلة بشعبها والأقرب إلى مزاجه ورهاناته ومصالحه.

مع أنّ حرف “لو” يُفسد التحليل السياسي القائم على الحقائق الموضوعية، إلا أنّ حقيقة الحقائق في هذا الصدد هي أنّ “فتح” بتراثها ورصيدها وعديد أعضائها وكوادرها تظلّ هي المخرج الوطني من كلّ المآزق، فهي لم تكن يوماً لأعضائها والمتنفّذين فيها، بقدر ما كانت للشعب كلّه بكلّ شرائحه وأماكن وجوده.

“فتح”، والحالة هذه، بحاجة إلى جهد دؤوبٍ لاستعادة عافيتها، والطريق إلى ذلك أن يعود كلّ المهاجرين والمهجّرين منها إلى مسقط رأسهم السياسي “فتح”، وفق صيغة ديمقراطية تبدأ بمؤتمر توحيديّ، وحتى تأسيسيّ، لا يُمنع عنه من هم جديرون به، ويخضع لترتيبات محكمة توفّر لأعضائه حرّية النقاش السياسي وفتح جميع الملفّات وصولاً إلى الانتقاد غير المتحفّظ، من أجل إنتاج قيادة منتخبة لا تشوب إجراءات انتخابها شائبة. لقد جرّبت “فتح” التلاعب بمؤتمراتها، خصوصاً التي تمّت على أرض الوطن، وكانت النتيجة أن أفرزت الحالة المتردّية ثلاث قوائم لخوض الانتخابات العامّة، وهو ما جعل من استعادة مكانتها القديمة مستحيلة، فهل يفكّر الفتحاويّون في مخرجٍ كهذا؟

إقرأ أيضاً: مفتاح عرفات… ليس بيد عبّاس؟

إنّ كلّ يوم يمرّ دون العمل الجدّي لتجسيد ما تقدَّم يجعل من إصلاحها واستعادة مكانتها أمراً يكاد يكون مستحيلاً.

قدر الشعب الفلسطيني أن تكون مؤسّسة ثورته المعاصرة معضلةً بحدّ ذاتها، والحلّ أيضاً.

مواضيع ذات صلة

16 آذار 2025: رسالة المختارة إلى السّويداء

تختلف الذكرى الـ48 لاغتيال كمال جنبلاط في  16 آذار هذا العام عن سابقاتها. في السنوات السابقة تحوّلت الذكرى مع الوقت إلى واحد من لائحة التواريخ…

أوروبا… إذا خسرت حرب أوكرانيا

حصل اتّفاق لوقف النار في أوكرانيا أم لم يحصل. ليست تلك المسألة. المسألة تتلخّص بقدرة أوروبا على استعادة موقعها على الخريطة الدولية بعدما قرّر الرئيس…

لم ينتصر الأمويّون ولم ينهزم العبّاسيّون

شريطان مصوّران تمّ تداولهما في الأيّام الأخيرة يفتحان المجال السياسي والشعبي على عدد كبير من الأسئلة ليس أوّلها ولا آخرها: لماذا يكرهون السُّنّة؟   –…

عبدالملك باعث دولة وعمر مُصلح مسموم (3-4)

أخطاء يزيد بن معاوية أسقطت الدولة السفيانيّة في مبتدئها، فانتقلت السلطة إلى الفرع المروانيّ بقيادة مروان بن الحكم، الشخصية الإشكالية الذي كان السبب في تمرّد…