وضع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) ضغطاً كبيراً على نظامه الماليّ الهشّ أصلاً. وللخروج من هذا المأزق يجب أن تفي الدولة بمتطلّبات الامتثال الصارمة. ومع ذلك، ليس تحقيق هذا الهدف مسؤوليّة طرف واحد، بل يتطلّب جهداً منسّقاً وجماعياً عبر سلطات عدّة، لأنّ فشل كيان واحد سيعرّض العملية برمّتها للخطر. يجب تحديد الإجراءات الرئيسية التي يجب على لبنان اتّخاذها وتحديد مسؤولية كلّ طرف ذات صلة، مع تأكيد ضرورة اتّباع نهج الإصلاح القائم على “كلّ شيء أو لا شيء” – All or Nothing.
فجوات الامتثال الحاليّة
يسلّط تقويم مجموعة العمل المالي للبنان الضوء على أوجه القصور في العديد من المجالات الرئيسية، بما في ذلك قوانين تبيض الأموال وتمويل الإرهاب، والعناية الواجبة للعملاء، ومصادرة الأصول، وشفافيّة المُلكية المستفيدة، والتعاون الدولي. تتطلّب معالجة هذه القضايا جهداً متزامناً من قبل جميع السلطات المسؤولة. الامتثال الجزئي غير كافٍ لأنّ مجموعة العمل المالي تتطلّب تنفيذ وإنفاذ إصلاحات شاملة بشكل فعّال. إذا فشلت أيّ مؤسّسة بمفردها، فإنّ النظام بأكمله ينهار، وهو ما يضمن استمرار العزلة الماليّة والإضرار بالسمعة.
أمّا الإجراءات الأساسية المفترض اتّخاذها فهي:
1. تعزيز قوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب:
– تسمح الثغرات في الإطار القانوني اللبناني بحدوث تجاوزات في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
– تعديل التشريعات لتتماشى تماماً مع الأداء المسؤول، وضمان عقوبات متناسبة ورادعة، وتجريم جميع الجرائم الأصلية.
– وزارة العدل، القضاء، هيئة التحقيق الخاصّة والبرلمان هم السلطات المسؤولة عن ضمان نجاح هذه الجهود.
– إذا نجح واحد فقط من هذه الكيانات بينما فشلت الكيانات الأخرى، فسيظلّ لبنان غير ممتثل، وستستمرّ الأنشطة غير المشروعة.
2- تعزيز مصادرة الأصول:
– هناك ضعف في الآليّات المعتمدة لتحديد الأصول غير المشروعة وتجميدها ومصادرتها.
– إنشاء مديرية مخصّصة لإدارة الأصول، وتعزيز الأطر القانونية، وتدريب أجهزة تطبيق القانون على أفضل الممارسات في استرداد الأصول.
الخروج من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي ليس مهمّة يمكن من طرف واحد
– وزارة العدل، وزارة الداخلية، هيئة التحقيق الخاصّة، والقضاء مسؤولون عن ضمان حسن التنفيذ.
– الإنفاذ السليم هو الممرّ الإلزامي للحدّ من استغلال الثغرات المالية ويساهم في خروج لبنان من اللائحة الرمادية.-
3- تنظيم المنظّمات غير الحكومية (NGOs) التي لا تبغي الربحيّة:
– غياب الرقابة على مصادر تمويل هذه المنظّمات يجعلها عرضة للاستغلال.
– يجب أن يكون التسجيل إلزاميّاً، وإجراء تقويمات المخاطر وتعزيز الرقابة والتدقيق.
– وزارة الداخلية، وزارة الشؤون الاجتماعية، مركز الاستخبارات المالية والجهات التنظيمية المالية ذات الصلة هم من يتحمّلون مسؤولية حسن التنفيذ والامتثال.
– المسؤولية للجميع وعلى الجميع، أو تستمرّ إساءة استخدام هذه المنظّمات للتمويل غير المشروع، وهو ما يعيق إخراج لبنان من اللائحة الرمادية.
4- تعزيز العناية الواجبة للعملاء (CDD) ومراقبة الأشخاص المعرّضين سياسيّاً (PEP):
– هناك ضعف في تطبيق الـCDD، خاصة بالنسبة للأفراد المعرّضين لمخاطر عالية.
– واجب نشر التوعية وتفعيل العناية الواجبة المعزّزة (EDD)، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية، وفرض إشراف تنظيمي أكثر فعّالية.
– مصرف لبنان، المؤسّسات المالية بمختلف أنواعها وأشكالها، جمعية مصارف لبنان ومكوّنات القطاع الخاصّ عليهم مسؤولية ضمان حسن التنفيذ والامتثال.
– يجب أن يكون التنفيذ متيناً وموحّداً وعدم ترك فجوات حتى لا يتسنّى للجهات الفاعلة غير المشروعة باستغلال النظام.
5- تحسين الشفافيّة في المُلكية المستفيدة – Beneficial Owner:
– إنّ عدم وجود سجلّ مركزي يمكن الوصول إليه لمعلومات الملكية المستفيدة يسمح بارتكاب جرائم ماليّة.
– يجب إنشاء سجلّ وطني للملكية المستفيدة، وإنفاذ متطلّبات الإبلاغ وتنفيذ آليّات التحقّق.
– الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هم وزارة العدل، وزارة الاقتصاد والتجارة، مصرف لبنان ومراكز الاستثمار – Investment Authorities.
– التنفيذ المطلوب يكون عبر جميع الكيانات ذات الصلة. غير ذلك يبقي معلومات الملكية المستفيدة غامضةً، وهو ما يعزّز مخاوف مجموعة العمل المالي.
يسلّط تقويم مجموعة العمل المالي للبنان الضوء على أوجه القصور في العديد من المجالات الرئيسية، بما في ذلك قوانين تبيض الأموال وتمويل الإرهاب
7- تعزيز تنظيم التقنيّات الجديدة (AI) والأصول الافتراضيّة (Virtual Assets)
– يؤدّي عدم وجود إطار تنظيمي واضح للأصول الافتراضية إلى مخاطر الجرائم المالية.
– وضع إطار تنظيمي شامل ومتماسك، إجراء تقويمات للمخاطر وزيادة الوعي بين المؤسّسات الماليّة أصبحت واجبة.
– الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هي وزارة المالية، مصرف لبنان ومراكز الاستثمار.
– إذا فرضت سلطة واحدة فقط اللوائح بينما تأخّرت سلطة أخرى، فسيجد المجرمون الماليّون الثغرات وسيستغلّونها.
8- تعزيز التّعاون الدولي وإجراءات تسليم المجرمين:
– التأخير وعدم الكفاءة في الاستجابة لطلبات المساعدة القانونية المتبادلة وتسليم المجرمين هما مصدر قلق.
– تعديل القوانين لتسريع الإجراءات والتفاوض على المعاهدات الثنائية وتعزيز قدرات السلطات المعنيّة.
– الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هي وزارة العدل، وزارة الخارجية، القضاء وهيئة التحقيق الخاصّة.
– سيؤدّي الفشل في أطر المساعدة القانونية المتبادلة إلى إبقاء لبنان معزولاً عن النظام الماليّ الدولي.
دور القطاع الخاصّ
يعدّ القطاع الخاصّ شريكاً أساسيّاً في جهود لبنان للخروج من اللائحة الرمادية. وبدون تعاونه الكامل، لن يكون أيّ إصلاح تقوده الحكومة فعّالاً. تشمل المسؤوليات الرئيسية ما يلي:
– ضمان الامتثال لتدابير العناية الواجبة للعملاء (CDD) وتنفيذ العناية الواجبة المعزّزة (EDD) للعملاء ذوي المخاطر العالية.
– الإفصاح عن الملكية المستفيدة بشفافيّة لمنع إساءة استخدام هياكل الشركات.
– التعاون النشط مع المنظّمين لضمان تنفيذ السياسات المتوافقة مع مجموعة العمل المالي.
– تطبيق تدابير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على المهن العالية الخطورة مثل الوكلاء العقاريين والمحامين وغيرهم.
– الامتثال للّوائح الجديدة الخاصّة بالأصول الافتراضية والتكيّف مع مخاطر الجرائم الماليّة المتطوّرة.
– الاستثمار في التدريب وعمليات تدقيق الامتثال الداخلية للحفاظ على نهج وثقافة الشفافيّة.
إذا فشل القطاع الخاصّ في الوفاء بهذه المسؤوليّات، فإنّ جهود لبنان للخروج من اللائحة الرمادية ستنهار، بغضّ النظر عن مدى جودة أداء أجهزة الدولة.
وضع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) ضغطاً كبيراً على نظامه الماليّ الهشّ أصلاً
نهج “كلّ شيء أو لا شيء” التزام وطنيّ
إنّ الخروج من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي ليس مهمّة يمكن إنجازها من طرف واحد. وإذا فشلت أيّ سلطة أو قطاع في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، فإنّ الجهد بأكمله ينهار. يعتمد النجاح على:
– إنشاء فريق عمل وطني لضمان حسن تنفيذ خريطة الطريق التي تقدّمت بها مجموعة العمل المالي.
– تنفيذ إجراءات مساءلة صارمة لمراقبة الامتثال ومعاقبة من لا يمتثل.
– توافر الإرادة السياسية والالتزام بضمان تصويب الأداء وتنفيذ الإصلاحات من دون تدخّل.
إذا فشلت إحدى مؤسّسات الدولة أو القطاع الخاصّ، يظلّ لبنان على اللائحة الرمادية: إمّا أن ينجح الجميع أو لا أحد!
* باحث في كلّيّة سليمان العليان للأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، استراتيجيّ مخاطر واقتصادي سياسي ونقديّ.