أوروبا الحائرة أمام ترامب: استدارة أم مناورة؟

مدة القراءة 6 د

صدعٌ تاريخي لا يستهان به في جدار المنظومة الغربية. تدوِّر التصريحات الدبلوماسية زوايا الخلاف بين المستجدّ في الولايات المتحدة والقديم في أوروبا. لكنّ الأمر قد يشي ببداية عصر آخر في المشهد الدولي العامّ يقطع مع ذلك الذي استتبّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. نقول “قد”، لأنّه لا يمكن الركون بكسل إلى سلسلة مواقف لإدارة أميركية زائلة، فيما التحوّلات الكبرى يحتاج تأكيد نزوعها إلى استدارة استراتيجية يلزمها الثبات والتراكم.

 

سعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إطلاق هذه الاستدارة في ولايته الأولى. أعلن ما يُشبه العداء للاتّحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. أظهر حنقاً على المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل، فرفض حتّى مصافحتها، وأظهر توتّراً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم تخفِه لغة الجسد. بالمقابل أبدى ودّاً مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، واندفاعاً باتّجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإعجاباً به.

مع ذلك لم يصدّق أحد من المنظومة الغربية، بالمعنى الواسع، من كندا إلى أستراليا مروراً بالأوروبيين طبعاً، أنّ في الأمر تحوّلاً استراتيجيّاً مقلقاً. أغلب قادة تلك المنظومة لم يحبّوا ترامب ولم يعتبروه منهم، وتهامسوا من وراء ظهره حين كانت لقاءات كبرى تجمعهم به. فمواقف الرجل ونزقه وميوله للاقتراب من الخصوم والابتعاد عن الحلفاء، لا تشبه تاريخ الولايات المتحدة منذ أن نصّبت نفسها زعيمة لـ”العالم الحرّ”.

ترامب والدّولة العميقة

لم يخرج ترامب في الولاية الأولى عمّا تقرّره مؤسّسات القرار في الولايات المتّحدة. فحين قرّر الخروج من الاتّفاق النووي مع إيران عام 2018، بدا أنّ الأمر خلاصة استنتاج تلك “الدولة العميقة” لضرورة مراجعة ما “ارتُكب” عام 2015. ودليل ذلك أنّ خلفه جو بايدن الذي وعد أثناء حملته الانتخابية بالعودة “فوراً” إلى الاتّفاق في عهده، لم يفعل. وقبل ذلك، حين قرّر ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 2017، لم يفعل إلا تنفيذ قانون كان صدر عن الكونغرس عام 1995 ولم يملك أيّ رئيس أميركي مذّاك “وقاحة” تنفيذه.

سعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إطلاق هذه الاستدارة في ولايته الأولى. أعلن ما يُشبه العداء للاتّحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي

لكنّ شيئاً تغيّر. غاب الرجل 4 سنوات وعاد بما يشبه بنياناً أيديولوجيّاً لتغيير موقع ودور أميركا في هذا العالم. كان نفى أثناء حملته الانتخابية أن تكون خطّته مستلهمة من “مشروع 2025″، الذي أصدرته Heritage Foundation اليمينية المحافظة في 31 كانون 2023، وأكّد جهله به. غير أنّ ما رسمته مواقفه يعزّز شبهة بأنّ “أميركا أوّلاً” بات شعاراً يتجاوز نفسه ويأخذ الولايات المتّحدة نحو اصطفاف من طراز “نحن والعالم”، حتى لو كان في هذا العالم حلفاء استراتيجيّون تاريخيون تقاسمت واشنطن معهم مزاعم القيم التي بات اسمها “غرباً”.

أعراض التّرامبيّة الجديدة

تبدو مشادّة البيت الأبيض “التاريخية” بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وبين الرئيس الأميركي وفريقه، الجمعة، علامة جديدة من أعراض الترامبيّة بمعناها الجديد. يمثّل المشهد اتّساع البون بين واشنطن وحلفائها. وهي حقيقة تؤكّدها مواقف عشرات الدول الغربية الداعمة لزيلينسكي في “نكبته”، وهي بهذا المعنى مدينة ضمناً لمن تسبّب بها. وهو ابتعاد تعترف بواقعه القمّة التي استضافتها لندن، الأحد، والتي جمعت زعماء من الاتّحاد الأوروبي وخارجه (بريطانيا) بحضور كندا وتركيا. وبدا أنّ الحدثين المتعاقبين يقدّمان مشهداً تبتسم له موسكو كثيراً وتتأمّله بكين بحكمة وعدم تسرّع.

ترامب

حرب الليثيوم

في عهد ترامب الجديد، بدا أنّ حرب أوكرانيا ليست “صدام حضارات” استدعت هذه القطيعة، من جديد، بين روسيا و”الأطلسي” بضفّتيه، بل هي “حرب ليثيوم”. إنّها سباق على المعادن النادرة التي تدخل في صناعة الحداثة التقنيّة بكلّ أشكالها، لا سيما العسكرية. ومَن قرّر يوماً في واشنطن الاندفاع إلى مواجهة الصين ومحاولة كبح أو تأخير صعودها، فعليه القبض على موارد تلك الثروات في العالم، ومنها الكثير في أوكرانيا. وإذا ما بدا موقف زيلينسكي عناداً شجاعاً أمام زعيم أقوى دولة في العالم، فذلك، ربّما، لاعتقاده أنّ معادن بلاده تستحقّ أن تضمن واشنطن أمنها.

في عهد ترامب الجديد، بدا أنّ حرب أوكرانيا ليست “صدام حضارات” استدعت هذه القطيعة، من جديد، بين روسيا و”الأطلسي” بضفّتيه، بل هي “حرب ليثيوم”

هي مقامرة ولعبة ابتزاز شهدنا جميعاً فصولها، وقد نتابع مآلاتها التوفيقيّة المحتملة. سعت أوروبا إلى أن تقدّم أعراض بداية “صحوة” نهائية تأخذ علماً بالمستجدّ في واشنطن. وهذا حقيقي. الحرب تجري في القارّة، وتهدّد بلدان القارّة، ولا تهدّد الولايات المتحدة. تقوم حوافز الحراك الأوروبي على “رعب”. فأوكرانيا على بعد 1,500 كلم من باريس، على حدّ تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. والرعب الآخر أنّ القارّة التي نامت منذ 80 عاماً تحت سقف المظلّة الحمائية الأميركية، تخشى انسحاب ظلالها وانكشافها أمام أخطار وجودية لم تكن متخيّلة قبل أسابيع.

عملت قمّة لندن، تحت قيادة رئيس الحكومة البريطاني كير ستارمر، على تأكيد الدعم لأوكرانيا، والعزم على إطلاق “ثورة” للحماية الذاتية، وتدبير ضمانات أمنيّة أوروبية لرفد أيّ اتّفاق سلام، ثمّ أخيراً وليس آخِراً أن لا اتّفاق سلام من دون دعم الولايات المتحدة. تودّ بريطانيا ومعها فرنسا، الدولتان النوويّتان في القارّة، ادّعاء “عرضيّة” عراك البيت الأبيض وعدم تصديق جسارته.

إقرأ أيضاً: فضيحة ترامب-زيلينسكي: إنذار إلى حلفاء واشنطن

بالنسبة لماكرون أمر المشادّة ليس سوى “نهاية سيّئة لمؤتمر صحافي”، فيما ستارمر العائد من واشنطن باستعادة كادت تكون مستحيلة لعلاقات لطالما كانت خاصّة بين بلاده والولايات المتحدة، يتطوّع ليكون “جسراً” بين الحلفاء بعد أسابيع من شنّ نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس وصديقه المدلّل في الإدارة إيلون ماسك حملة استهدفت بريطانيا وحزبها الحاكم وشخص ستارمر بالذات.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

طارق متري: غزّة تروي قصّة إبادتها بوضوح

خصّصت مجلّة “الدراسات الفلسطينية” عددها الأخير الـ142 الصادر في ربيع 2025 لسبر أغوار مستجدّات الحرب  على قطاع غزة، فلسطينيّاً وإسرائيليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، عبر نشر سلسلة…

فيصل سنّو يعود لمسرح الجريمة.. ماذا قال لبسّام برغوت؟ (2/2)

دخل بسّام برغوت على رئيس جمعيّة المقاصد فيصل سنّو في مكتبه بالجمعية كعادته يومياً، فهو عضو مجلس أمناء الجمعية ومسؤولها المالي ويعتبر من أصدقاء سنّو…

إيران تتمسّك بسلاح أذرعها في التّفاوض… إسرائيل تصعّد

قيل الكثير في أسباب موجة المواقف التي أطلقها “الحزب” رفضاً لمبدأ نزع أو تسليم سلاحه. من التفسيرات الرائجة أنّه يخاطب جمهوره ويرفع من معنويّاته، لكنّ…

الإصلاح التّجميليّ الفلسطينيّ.. وحزب الجمود الوطنيّ

ينبغي أن يبدأ إصلاح الحال الفلسطيني بإصلاح النظام السياسي الذي اضمحلّ وضعف وتشتّت جرّاء الانقسام والجمود والإهمال. كلّ الترتيبات التي يجري الحديث عنها، وأكثر ما…