نقاشٌ مع الأرقام… والأوهام

مدة القراءة 7 د

من قال إنّ الشيعة ليسوا كثيرين؟ من ناقش في أنّ محبّي الأمين العامّ لـ”الحزب” أقليّة في هذه الطائفة؟ كاتب هذه السطور نشر مقالاً بعنوان “التصالح مع السيّد بعد رحيله”، في هذا الموقع. وبعد أيّام من اغتياله. كما أنّ آلافاً من خصومه أبدوا له كلّ الاحترام، لأنّه استشهد في معركة بمواجهة العدوّ الإسرائيلي… لكن هل هذا يعني أنّ الشيعة ما زالوا يريدون الحروب التي يعِدنا بها “الحزب” مجدّداً، وأنّهم يريدون الاستمرار في الولاء لإيران، التي تركتهم للمذبحة ولم تمدّ لهم يد العون؟

ماذا يعني الرقم، أيّاً كان؟

200 ألف أم مليون؟

كان هذا السؤال أساسياً في نقاشات ما بعد تشييع الأمينَين العامَّين لـ”الحزب”، السيّدين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين. وسريعاً بدا النقاش عقيماً. استحضر الخصوم ما يلزم للقول إنّ العدد قليل، واستنجد “الحزب” برفاقه في وكالات أجنبية لينشروا أنّهم “مليون”. وليستشهد بـ”الأجانب”.

من كان ينكر أصلاً أنّ جزءاً كبيراً من الشيعة يحبّون “السيّد”، وسيشاركون في تشييعه؟

في العادات المشتركة بين اللبنانيين، وفي أصول اللياقات وفي التقاليد الاجتماعية، يشارك الجميع في مراسم العزاء والدفن. وهناك يلتقون، خصوماً وحلفاء.

ألم يعزِّ “السيّد” برفيق الحريري في قريطم في 19 شباط 2005؟

في العادات المشتركة بين اللبنانيين، وفي أصول اللياقات وفي التقاليد الاجتماعية، يشارك الجميع في مراسم العزاء والدفن. وهناك يلتقون، خصوماً وحلفاء

المشاركة في التّشييع.. لا تعني الولاء السّياسيّ

المشاركة في تشييع أيّ فقيد لا تكون بالضرورة استفتاءً على دوره في “المستقبل”. بل هي احترامٌ للراحل الذي بات “من الماضي”.

وفي حالة “الحزب”، فهو لم يقدّم “برنامجاً” مستقبليّاً، دعا الشيعة وغير الشيعة على أساسه إلى المشاركة في مشهد يوم الأحد الفائت. والدليل مشاركة نواب عن “التيار الوطني الحرّ”، الذي بات خطابه معادياً لسلاح “الحزب” منذ فترة طويلة. ومشاركة الوزير السابق وئام وهّاب الذي بات ينادي بالسلام مع إسرائيل. ومشاركة الرئيس نبيه برّي الذي كانت حركته، “أمل”، غير موافقة على حرب “إسناد غزّة”. برّي الذي مثّل رئيس الجمهورية. وفي اللحظة نفسها كان جوزف عون يقول لوزير الخارجية ورئيس مجلس الشورى الإيرانيَّين إنّ “لبنان تعب من حروب الآخرين” و”دفع ثمناً كبيراً من أجل القضية الفلسطينية” و”يدعم ما صدر عن قمّة الرياض الأخيرة بالنسبة إلى حلّ الدولتين”.

ولو كانت المشاركة في التشييع تعني الولاء السياسي، لما دعا “الحزب” الرئيس سعد الحريري. ولو كانت المشاركة تعني الموافقة على الخطاب السياسي لـ”الحزب” لما دعا وفدٌ رفيعٌ الرئيس فؤاد السنيورة.

المشاركة في تشييع أيّ فقيد لا تكون بالضرورة استفتاءً على دوره في “المستقبل”. بل هي احترامٌ للراحل الذي بات “من الماضي”

وداع الماضي… لا مبايعة المستقبل

كثيرون أحبّوا “السيّد”. بعضهم غادر حين بدأ الأمين العامّ الجديد الشيخ نعيم قاسم كلمته. وكثيرون “عشقوا” الراحل، كما يحلو لهم الكتابة والقول. وكانت علاقتهم محصورة به. يردّدون أنّهم يحبّون “السيّد” في “الحزب”. وقد ذهبوا ليودّعوا هذا “الحبيب” بالنسبة إليهم.

وبالتالي راحوا لوداع الماضي، لا لـ”البصم” على كلّ ما ستفعله القيادة الجديدة في المستقبل. وهذا لا يحتاج إلى نقاش أصلاً.

لنأخذ على سبيل المثال جنازة الرئيس رفيق الحريري في 16 شباط 2005. حضرها مئات الآلاف. لكنّها لم تكن إعلاناً سياسياً. ولم تشهد خطاباتٍ كما حصل في 14 آذار، بعد شهر. يومها بات تجمّع 14 آذار سياسيّاً، وتحدّث خلاله معظم من باتوا يُعرفون لاحقاً بأنّهم “قادة 14 آذار”.

بالتالي لم يكن التشييع “إعلاناً سياسياً”. لأنّ المشيّعين، من محبّي نصرالله، ليسوا بالضرورة حزبيّين، ولا بالضرورة موافقين على ما قاله الشيخ نعيم قاسم. وأبرز ما قاله: “نحن أبناء الولاية”. فهل كلّ المشيّعين ما زالوا يعتبرون الإمام الخامنئي “الوليّ” عليهم؟ أولم تخرج أسئلة على ألسنة كبار القريبين من “الحزب” حول التخلّي الإيراني عن شيعة لبنان خلال الحرب الأخيرة؟

التشييع الضخم لا يمكن أن يقفز عن هذه الأسئلة.

لم يكن التشييع “إعلاناً سياسياً”. لأنّ المشيّعين، من محبّي نصرالله، ليسوا بالضرورة حزبيّين، ولا بالضرورة موافقين على ما قاله الشيخ نعيم قاسم

الأرقام والأعداد والأوهام

في لبنان بحسب “الدولية للمعلومات” 1.8 مليون شيعي. بينهم 1.2 مليون شيعي يقيمون في لبنان. 20% منهم تحت الـ10 سنوات. ومثلهم من كبار السنّ والمرضى. يبقى من الشيعة المقيمين في لبنان 750 ألفاً. 572 ألفاً منهم فقط شاركوا في الانتخابات النيابية الأخيرة.

نُضيف إلى “الدولية للمعلومات” أنّ 30% فقط من الشيعة صوّتوا لـ”الحزب” في انتخابات 2022. و16% لحركة أمل مقابل 7% للمعارضة، ومقاطعة 47%.

أي أنّ من استطاع “الحزب” إنزالهم، من الشيعة، إلى صناديق الاقتراع، في أكثر لحظات قوّته، وحين كان بشّار الأسد في الشام، وإيران في ذروة قوّتها، وحين كانت لديه السلطة والقوّة في الإدارات العامّة والخاصّة، والمال الكثير، وتجاراته العابرة للدول، و100 ألف مقاتل، قبل 7 أكتوبر 2023، وحين حرّض بأنّ الانتخابات هي “حرب تموز جديدة على الشيعة”… لم يزيدوا على 30% من الشيعة المقيمين والناخبين الناشطين.

فمن أين سيأتي الرقم مليون؟ أو 700 ألف؟ أو حتّى 500 ألف؟

يعرف كلّ العالم لعبة الأعداد والأرقام. مئات الآلاف ما زالوا يرون في “الحزب” درعهم. لأنّه لا بديل عنه

ماذا تعني الكثرة الكاثرة؟

لكنّ أيّاً كان العدد: 200 ألف أو مليوناً، فماذا يعني هذا الرقم؟

لو كان محبّو “السيّد” بالملايين، وليس فقط بمئات الآلاف، فإلى أين ستأخذهم القيادة الحزبية الجديدة؟ وكيف ستوظّف هذا المشهد في المُعطى السياسي؟

أولم يكونوا أكثر حين أخذتهم هذه القيادة إلى حرب خسروها ووقّعوا بعدها صكّ وقف إطلاق النار بشروط إسرائيلية مازالت تترجم بقصف الجنوب والبقاع خلال التشييع، وتحليق الطائرات التي اغتالت نصرالله فوق رؤوس المشيّعين؟

كثرتهم في مسيرتهم الأخيرة خلف نصرالله، في نعشه، لا تعني أنّ هؤلاء يريدون استمرار الحروب التي أخذتهم القيادة السابقة إليها. لأنّ جزءاً كبيراً منهم دمّرت إسرائيل بيوتهم جزئيّاً أو كلّياً. وبعضهم دُمّرت قراهم بالكامل وأباد العدوّ الأحياء التي يسكنونها في المدن، وتحتاج إلى سنوات كي تعود صالحة للسكن.

قيادة “الحزب” أخذت هذه الأعداد إلى حروب لا تبدأ في زواريب بيروت ولا تنتهي في سوريا ومحاولة تنفيذ انقلابات في دول عربية أو في “إسناد غزّة” لـ”تحرير فلسطين”. وكانت النتيجة القتل والموت والتشريد ودمار البيوت وحديث عن التهجير…

قال الناطقون بلسان “الحزب” إنّ التشييع كان “حصيلة جهود 40 عاماً”. وهذا صحيح

يعرف كلّ العالم لعبة الأعداد والأرقام. مئات الآلاف ما زالوا يرون في “الحزب” درعهم. لأنّه لا بديل عنه، ولأنّه دفع في الأشهر الماضية مئات ملايين الدولارات بدل ترميم بعض البيوت المهدّمة و”بدل صمود” للعائلات.

مئات الآلاف سيبقون على ضفاف “الحزب”، وسندور في الحلقة نفسها، لأنّه ما زال ممنوعاً خروج مشروع آخر يأخذ الشيعة إلى ضفّة أخرى. ولائحة الممنوعات داخلية وخارجية. ومئات الآلاف هؤلاء، حتّى لو افترضنا أنّهم يريدون الخروج من هذا المشروع، فإلى أين سيذهبون؟ إلى العراء؟ إلى المُعارضين الذين يتحدّثون على التلفزيونات من دون أيّ ظهر أو مشروع؟

قال الناطقون بلسان “الحزب” إنّ التشييع كان “حصيلة جهود 40 عاماً”. وهذا صحيح. ومن الوهم الظنّ أنّه يمكن فكّ ارتباط هؤلاء عن “الحزب” بحرب عسكرية أو بهزيمة سياسية، من دون مشروع بديل.

إقرأ أيضاً: إلى محمود: إحفر قبرَكَ.. وتعالَ نضحك

لمتابعة الكاتب على X:

@mdbarakat

مواضيع ذات صلة

المفاوضات النوويّة: محضر لقاءات بوحبيب وعبداللّهيان

لم تبدأ جولة المفاوضات الأميركية – الإيرانية من عدم. جاءت تكملة لمسار طويل من الأخذ والردّ بين الطرفين على مرّ سنين بالواسطة أحياناً، ومباشرة في…

هل تخلّى ترامب عن سوريا؟

أميركا لاعب قويّ في سوريا منذ ما قبل سقوط نظام بشّار الأسد. قوّتها تنبع من هيمنتها الدولية، ووجودها العسكري المباشر في التنف وشرق الفرات، ودعمها…

الجيش الإسرائيليّ على كفّ… عرائض الاعتراضات

تتدحرج العريضة التي أطلقها طيّارون من الاحتياط في الجيش الإسرائيلي نهاية الأسبوع الماضي، والمطالِبة بإعادة الأسرى من غزة بثمن وقف الحرب، ككرة ثلج في المجتمع…

لبنان امتحان لسوريا… وسوريا امتحان للبنان

كان مهمّاً قيام رئيس مجلس الوزراء في لبنان نوّاف سلام بزيارة لدمشق وعقد لقاء مع الرئيس السوري أحمد الشرع. تنبع أهمّية الزيارة من حاجة لبنان…