رفيق الحريري حاول “أنسنة” الضّباع

“سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَياةِ وَمَنْ يَعِشْ * ثَمانينَ حَوْلاً لَا أَبَا لَكَ يَسْـــــأَمِ

رَأَيْتُ المَنايَا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ * تُمِتْهُ ومَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ

وأَعْلَمُ ما فِي اليَوْمِ والأَمْسِ قَبْلَهُ * ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ

ومَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أمُورٍ كَثِيرَةٍ * يُضَرَّسْ بِأَنْيابٍ ويُوطَأْ بِمَنْسِــمِ

ومَنْ يَجْعَلِ الـمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ * يَفِرْهُ، ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ”

زهير بن أبي سلمى

جميلة وبليغة تلك القصيدة المنسوبة لشخصية لا يعلم أحد إن كانت أو لم تكن، فما يُطرح عن الشعر العربي الجاهلي منذ أيّام طه حسين يشكّك في صحّة نسبة تلك التحف الفنّية، على أساس أنّها كلّها تمّ نظمها بعد بضعة قرون ممّا افتُرض، لكن ما همّ؟ فقد خلّدت هذه الملحمة الشعرية اسم زهير بن أبي سلمى! لكنّ ما سيق في تلك الرائعة يؤكّد أنّ الناس لا يخوضون غمار الحرب إلّا مكرهين.

قد يكون سنّة لبنان الأكثر رسوخاً في تاريخ هذا البلد. بعد دراسة، نُشرت منذ زمن من خلال الجامعة الأميركية في بيروت، عن الأصول الجينيّة الفينيقية في لبنان، تبيّن أنّ أهل مدن الساحل هم أكثر من يحمل هذه الجينات. لكن، حتى في الطباع، ولمّا كانت شهرة الفينيقيين بالتجارة ونشر الحرف المكتوب، فإنّ التاجر الذي يبحث عن الازدهار والنجاح يحاول دائماً نسج العلاقات واتّباع سبل التسويات بدل الصراع والحروب التي تضرب الاستقرار، وتخرّب سبل الرزق. لكن، في كلّ الأحوال، وفي ظلّ التحوّلات العظيمة في هذه المنطقة المضطربة دائماً من العالم، لا يمكن تأكيد أصل وفصل أيّ منّا، لا في العرق ولا في القومية، وبالتأكيد لا في الدين ولا المذهب. فالتحوّل من الديانات القديمة إلى الديانات القائمة والناشطة اليوم لم يأتِ بالأفواج ولا بالجملة ولا بلحظة خاطفة من التاريخ، بل من خلال تحوّلات بطيئة تدخل فيها أوّلاً المصالح، وثانياً التأثير المجتمعي، ومعهما جملة من الأمور التي لا حصر لها. ففي الإمبراطورية الرومانية، التي تحوّلت بقرار سياسي سنة 325 إلى المسيحية بعد مجمع “خلقيدونيا”، بقيت الديانات الموروثة قائمة لعدّة قرون تلت، على الرغم من القمع المتعدّد الأشكال الذي مورس ضدّها. كما أنّ “ألبرت حوراني” في كتابه المرجعي “تاريخ شعوب العرب” المكتوب أصلاً باللغة الإنكليزية أكّد أنّ أكثرية الشعوب الواقعة تحت الحكم الإسلامي لم تصبح بأكثريّتها مسلمة إلّا بعد ثلاثة عقود من البداية الافتراضية. بالمحصّلة، اختلطت الشعائر مع العقائد لتنتج ما حصل.

قد يكون سنّة لبنان الأكثر رسوخاً في تاريخ هذا البلد. بعد دراسة، نُشرت منذ زمن من خلال الجامعة الأميركية في بيروت، عن الأصول الجينيّة الفينيقية في لبنان

أمّا عن الأعراق، فحدّث ولا حرج، فلكلّ شعب فاتح مرّ من هنا بعض من جيناته الممتزجة مع الخليط الطبيعي والمنطقي بحكم الأمر الواقع. وهناك دراسة تؤكّد أنّ أحفاد جنكيز خان الحاليين يربو عددهم على ستّة عشر مليون إنسان في العالم حتّى يومنا هذا.

كلّ هذا لأقول إنّ الحديث عن أصل الأفراد في التاريخ لا يمكن تأكيده إلا بدراسة علمية جينية تعطي بعض الاحتمالات، وأمّا عن التحوّلات الاجتماعية والإيمانية للأفراد، فمن المؤكّد أنّها غير ممكنة إلّا بالفرضيّات والأساطير المفعمة بالآراء الشخصية. وكما يقول “أفلاطون” فإنّ الرأي الشخصي أو الانطباع لا يشبه الحقيقة بالضرورة.

سياسة الضّباع

لنعد إلى مسألة السياسة الضباعيّة، نسبة إلى الضباع، التي هي حيوانات مفترسة بالأساس وتسعى كغيرها من الضواري إلى اصطياد الفرائس من مختلف الأشكال، لكنّها أيضاً تستسهل الأمور عند الإمكان، وتوفّر النضال والتعب من خلال السعي وراء الجيف وبقايا فرائس حيوانات أخرى. لكنّ مكانتها وموقعها الأساسي في مملكة الغابات والسهول هو كونها تأخذ بالقوّة والبطش وليس بالحوار والتسويات.

يقول سيغموند فرويد إنّ المجتمعات بدأت تنشأ عندما تعلّم البشر الشتائم، أو بالأحرى عند تحويل عنصر الجدل العنيف من العضّ والضرب والقتل إلى كلمات. الكلمات كانت أساس تحويل الخوف الدائم من الآخر إلى وسيلة للتسويات وللعيش معاً دون خوف من الغدر الكامن وراء وجه الآخر. والتسويات هذه هي التي سكّنت الذئب الكامن في جينات البشر، حسب رأي توماس هوبس، ومكّنتنا من بناء الحضارات والمجتمعات المعقّدة والمتشابكة، من خلال التعاون والتنافس، متجنّبين إراقة الدماء ما أمكن.

يقول سيغموند فرويد إنّ المجتمعات بدأت تنشأ عندما تعلّم البشر الشتائم، أو بالأحرى عند تحويل عنصر الجدل العنيف من العضّ والضرب والقتل إلى كلمات

في لبنان، ما زالت الضباعية تهيمن على الحياة الاجتماعية والسياسية. هناك قناعة بأنّ “الشاطر بشطارته” هو المبدأ السليم، وأنّ ما يمكن “لطشه” أو “الاستلباص” عليه بالقوّة أو بالاحتيال أفضل وأسهل وأضمن من السعي إليه من خلال الجهد والتسويات والمشاركة. هذا المنطق بالذات هو الذي أدّى إلى الحرب الأهلية الطويلة التي أنتجت جيلاً من أشباه السياسيين الذين نقلوا عُدّة شغل الضباع من مواقع السواتر الترابية والقصف المدفعي العشوائي والقنص على المحاور والحواجز الطيّارة، إلى مجلس النواب والمؤسّسات والوزارات ورئاسة الجمهورية. وعلى الرغم من أنّهم أصبحوا في موقع القرار والمسؤولية، وبعضهم لديه الأهليّة المعرفيّة للحوار والتسويات، لكن في كلّ وقت يظهر الضبع وراء الكلمات والانفعالات عبر التهديد بالعودة للحرب الأهلية، أو الحديث عن الحقوق المسروقة، أو إنتاج مشاريع وقوانين انتخابات ترفع المتاريس بين الطوائف وتقيم الحواجز على مداخل الشوارع والحارات.

دخلت الحريرية الوطنية لبنان خلال الحرب الأهلية، وعلى الرغم من أنّ ثروة مؤسّسها وقدرات من يدعمونه كانتا قادرتين على تحويل طائفة بأكملها إلى فرقة من الضباع، لكن آثرت لغة التسويات، التي قد تجعل تخسر بعضاً ممّا لُطش واعتُبر حقّاً مرصوداً، لكنّ الأمان وراحة البال مكاسبهما أكبر بمرّات ممّا قد يُلطش بفعل موازين القوى المختلّة، التي لا تلبث هي ذاتها أن تتغيّر، فيعود من لُطش منه لينقضّ على من لَطشه في السابق. بالطبع هي حلقة مفرغة من العنف المتبادل الذي يشدّ جميع أطرافه نحو أقنية الصرف الصحّي، أو إلى أسفل مراتب جهنّم كما وعدنا!

في لبنان، ما زالت الضباعية تهيمن على الحياة الاجتماعية والسياسية

مشروع بلا أنياب

في عزّ الحرب الأهلية الطائفية المذهبية القومية العشوائية، ذهبت الحريرية إلى استجداء الضباع حقن الدماء ووقف التدمير، ثمّ إقناعها بفوائد التسويات. حتى عندما أتى من يقنع الحريرية بجدوى إنشاء فصيل من الضباع، كاحتياطي لحماية التسويات، رفضت الفكرة من أساسها لأنّها لن تحمل على ظهرها وزر الموت والدمار، حتى وإن كان تحت راية الوعد بالأمان والاستقرار، ولأنّ من تضبّع يوماً سيكون من الصعب عليه العودة إلى مجتمع مستقرّ لا حاجة فيه للتضبّع.

إقرأ أيضا: مشروع رفيق الحريري… هزم القتلة!

لأنّ الحريرية الوطنية ليست لها أنياب، أصبحت ضحيّة اللطش من كلّ الجهات، وحتى الحراك الذي انطلق في السابع عشر من تشرين، استسهل استهدافها قولاً وعملاً، في حين أنّ بعض الضباع لبسوا ثوب الثورة، وآخرين استلّوا سيف الإرهاب ضدّ من تسوّل له نفسه من الثورجيّين أن يمسّ سيّداً من أسياد الضباع ولو بعبارة عابرة، فكان يجبر على لحسها مذلولاً في اليوم التالي. المؤلم هو أنّ السياسات الحريرية رزحت تحت فعل البروباغاندا المستسهلة لخلق كبش محرقة وتضييع البوصلة في البحث عن مكامن الخلل الحقيقية. فعندما كنت أخوض بعض الحوارات المتفرّقة مع بعض متنطّحي الثورة من نخب أو حتى شبّان يافعين، كنت أسألهم عمّا تعني لهم السياسات الحريرية، فكانوا لا يعرفون ما يجيبون، أو يختصرون العلل في بعض هوامش الأمور، من دون البحث في الظروف التي أملتها التجربة وتأثيرات الضباع المتعدّدين، من محليّين وإقليميّين. لكنّ المضحك هو أنّ كلّ الحلول التي يطرحها هؤلاء تشبه أو تتطابق مع السياسات الحريرية.

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

ترامب في الفخّ اليمنيّ؟

 وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ناخبيه بعدم انخراط بلاده في حروب العالم وبسحب القوّات الأميركية من أيّ تورّط في الحروب الحالية. يعمل حالياً، بصعوبة، على…

رشا علويّة: بين الإمام المهديّ… وترامب

سيظهر الإمام المهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. هذا ما تؤمن به رشا علويّة. وإذا ظهر اليوم، أو غداً، فإنّ بلاد “الشيطان الأكبر” هي عدوّه الأوّل….

إيران بين رسالتَيْ ترامب: النّظام على المحكّ

على عكس التعامل مع الرسالة الأولى من الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الأعلى للنظام الإيراني السيّد علي خامنئي في أواسط حزيران 2019 التي حملها…

قيام الدولة: بالإرغام أو بالغلبة؟

استقرّ الرأي في الأنظمة الحديثة والمعاصرة على أنّ الدولة هي التي يكون من حقّها ممارسة العنف بمفردها. والسلطة في ممارساتها الشاملة تكون محايدة. أمّا في…