لن أذهب غداً إلى الضّريح

لن أذهب غداً إلى ساحة الشهداء لأقف عند الضريح. ما ارتبط يوماً رفيق الحريري بذاكرتي وعقلي وكياني بالأضرحة والموت والحزن والعويل.

أحببته بصورة “المعمرجي” واضعاً الخوذة البلاستيكية على رأسه. متنقّلاً من ورشة إلى أخرى. صورته الشهيرة لا أنساها وهو يشير بإصبعه إلى تلك الطريق.

 

عشقت صورة رفيق الحريري مرتدياً الثوب الأسود، يسلّم شهادات التخرّج للطلبة الجامعيين. تلك كانت أجمل لحظات حياته كما نقلت عنه عقيلته السيّدة نازك قائلة: “كان يعيش فرحاً كبيراً عندما ينظر إلى الطلبة الخرّيجين”. كانت ابتسامته في تلك المناسبات تشبه حقول القمح وهي تتمايل بلفحات النسيم كالذهب الأصفر الثمين.

لن أذهب غداً إلى ساحة الشهداء لأقف عند الضريح. ما ارتبط يوماً رفيق الحريري بذاكرتي وعقلي وكياني بالأضرحة والموت والحزن والعويل

سأجول في بيروت..

سأذهب غداً بجولة في شوارع بيروت منطلقاً من قريطم باتّجاه الشاطئ عند الكورنيش البحري مستذكراً كيف وقف الرفيق الشهيد مع الملك عبدالله عند ذاك الرصيف متفاخراً بمدينته وبحرها. ثمّ أتقدّم باتّجاه فندق فينيسيا. كم كان حريصاً على إعادة تأهيل هذا الفندق ليكون شريكاً له في استضافة المؤتمرات العربية والدولية بشتّى أنواعها. يقيم فيه كبار الشخصيّات من القمّة الفرنكوفونية إلى القمّة العربية عام 2002، وما بينهما من لقاءات واجتماعات. وفي افتتاح كلّ مناسبة كان يخاطب الضيوف: “أهلاً بكم في لبنان الجميل”. ثمّ سأذهب باتّجاه المطار، أتذكرون حجم المعارضة التي قامت بوجهه لأنّه قرّر توسعة المطار ليكون قبلة للزائرين. ثمّ من المطار سأتوجّه إلى شبكة الطرق الجميلة في الحازمية، تلك “التركة الجميلة”، التي ما تزال شاخصة أمام أعين الجميع. ومن هناك سأعود إلى الجامعة اللبنانية الوطنية في الحدث ومبانيها الجميلة التي تعاني اليوم إهمالاً كبيراً. كان حريصاً على أن تكون للوطن جامعة، وأن يحصل الفقير كما الغنيّ على التعليم الرفيع. استقدم كبرى شركات البناء والكثير من الخبراء ليكون هذا الصرح محقّقاً للأمنيات ولطموح الناس إلى تحصيل أبنائها للعلم كما يفعل كلّ أبناء الناس في كلّ البلاد، القريب منها والبعيد.

سأذهب إلى وسط بيروت متنقّلاً في شوارع المدينة العتيقة على ضفاف السراي الكبير. حيث العبارة المحفورة على كلّ جدار وكلّ فاصل إسمنتيّ لا يمكن نسيانها: “بيروت مدينة عريقة للمستقبل”. هكذا عرفها وأرادها دولة الشهيد.

ما اعترف رفيق الحريري بالموت ولا بالحزن ولا بالفشل ولا بالاستسلام. كان فارساً مقداماً محبّاً للحياة باحثاً عن كلّ شيء جميل

لم يعترف بالموت

ما اعترف رفيق الحريري بالموت ولا بالحزن ولا بالفشل ولا بالاستسلام. كان فارساً مقداماً محبّاً للحياة باحثاً عن كلّ شيء جميل. جاء بالسيّدة فيروز إلى وسط بيروت، وجعلها تصدح بصوتها البديع. ما أراد افتتاح سوليدير إلّا بحضور صائب سلام الزعيم الكبير. أراد أن تكون الأصالة حاضرة وأن يكون الرمز شاهداً على كلّ ما سيحصل ويصير.

لن أذهب غداً إلى الضريح. لقد أراد رفيق الحريري منّا نحن اللبنانيين شباباً ورجالاً أن نذهب إلى الحياة عند كلّ صبيحة، إلى المدرسة والجامعة والمعمل والمصنع، والأرض نحرثها ونسقيها كي يأتينا الخير الكثير.

لن أذهب غداً إلى الضريح. ما أرادنا رفيق الحريري عشيرة “لطّامة” وما طلب من نسائنا النحيب والعويل. طلب من الفنّان أحمد قعبور أن يصوغ لنا النشيد صادحاً: “يا حبيب الروح روح شوف مستقبلك، على الماضي ما تروح المستقبل لإلك”.

إقرأ أيضاً: مشروع رفيق الحريري… هزم القتلة!

في ذكرى رحيله العشرين سنجول على إنجازات رفيق الحريري فرحين، مهلّلين، قائلين له: “الشام تحرّرت يا رفيق، لم يعد فيها قهر، ولا سجون، ولا مخبرون. حمص عادت لأهلها ومعها حماة، وحلب تزهو بأعلام سوريا الجديدة كأنّها صبيحة العيد”.

في الذكرى العشرين أيّها الرفيق، نبشّرك أنّ كلّ القتلة رحلوا، وكما أوصيتنا لهم الأضرحة، وكلّ أيّامنا سنجعلها مناسبةً جميلةً وعيداً.

لمتابعة الكاتب على X:

@ziaditani23

مواضيع ذات صلة

سوريا: صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

تجاوز الحدث السوريّ، في جوهره العميق، فكرة سقوط نظامٍ أو قيام آخر. ما تشهده سوريا الآن ليس أقلّ من أزمة هويّة، في لحظة اختلالٍ خطيرة…

رسالة أميركيّة لإيران: ضرب الحوثيّ!

القصف الأميركي والعمليات العسكرية التصعيدية ضدّ قوّات ومعسكرات الحوثي في اليمن هي “رسالة أميركية لإيران عبر بوّابة الحوثي”.     مصدر عربي مطّلع أكّد لي…

بعد العسكريّ والسّياسيّ… “الحزب” الدبلوماسيّ؟

بدا الشيخ نعيم قاسم، في مقابلته الأخيرة، دبلوماسيّاً يعمل في وزارة الخارجية، لا أميناً عامّاً لحزب له ما له من ثقل في لبنان، والإقليم سابقاً،…

16 آذار 2025: رسالة المختارة إلى السّويداء

تختلف الذكرى الـ48 لاغتيال كمال جنبلاط في  16 آذار هذا العام عن سابقاتها. في السنوات السابقة تحوّلت الذكرى مع الوقت إلى واحد من لائحة التواريخ…