“أبو عمار” يردّ على ترامب: “أنا أقول لا”

في منتجع كامب ديفيد الشهير في العاصمة الأميركية، قال الرئيس الأمريكي بيل كلينتون للرئس ياسر عرفات: “إمضِ” أي “وقّع”.. كان ذلك العام 2000، ووصلت اتفاقية كامب ديفيد الثانية، بين “إيهود باراك” رئيس وزراء الكيان آنذاك، والرئيس عرفات، إلى نقطة حاسمة، كان الوفد الإسرا ئيلي يريد أن يعيد أكثر من 95 في المائة من الأراضي الفلسـطينية المحتلة إلى السيادة الفلسـطينية، وأما الـ5 في المائة الباقية، كانت خاضعة للمقايضة والمبادلة، وكان ذلك جميلاً ومقبولاً على الرئيس عرفات..

غير أن ما رفضه “أبو عمار”، هو التنازل عن حق اللاجئين، كما رفض التنازل عن السيادة على القدس الشرقية.. احتدم النقاش، واكفهر الجو.. وتعقدت المسائل، ووصلت المفاوضات إلى حافة الهاوية..

قال ياسر عرفات: “لن أتنازل، لا يجوز لي أن أفرّط في حق العودة، فهذا حق شخصي”.. قال كلينتون بعصبية، وهو يضغط على مخارج الحروف: “لا أحد هنا يقول لي (لا)..”. فرد الرئيس عرفات على الفور: “أنا أقول (لا).. وأدعوكم إلى حفل جنازتي غداً”..

 

 

ليس قراراً ابن ساعته. فقد ذكر تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” أنّه في الصيف الماضي وخلال حملته الانتخابية وفي ذروة الحرب على غزّة، أبلغ دونالد ترامب في مكالمة هاتفية بنيامين نتنياهو بأنّ قطاع غزة يُعدّ منطقة عقارية من الدرجة الممتازة، وطلب منه أن يفكّر في نوع الفنادق والمنتجعات الممكنة هناك.

أليس من عاقل أميركي يقف ليقول لدونالد ترامب سيّد البيت الأبيض الجديد: أوقف كلّ هذه الهلوسات. لا يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ رئيس دولة كبرى اسمها الولايات المتحدة تصدر عنه تصريحات لا تستند إلى منطق أو عقل أو دبلوماسية.

الرجل الأشقر نجم حلبات المصارعة الأميركية ومالئ الإعلام وشاغل الناس، كان العالم يتوقّع منه عندما يدخل البيت الأبيض أن يقود المعمورة نحو الأمن والسلام والرخاء، وهو القائل طوال حملته الانتخابية إنّه يكره الحروب وسيعمل على إيقافها جميعها في كلّ الأنحاء. وإذا به يتحوّل إلى تاجر عقارات أو ما يشبه المطوّر العقاري الباحث عن أرضٍ هنا ومبنى هناك. تارة يريد وضع يده على غزّة وكأنّ الأرض ليس لها شعب ولا أصحاب أملاك، وعندما رُفع الصوت بوجهه أمعن في الهلوسة قائلاً إنّه “ملتزم بشراء غزة وامتلاكها” عوضاً أن يعود إلى رشده. ولأنّه صاحب أخلاق حميدة وتاجر لا يريد إلغاء التجّار من الزملاء، أضاف: “ربّما أعطي أجزاء منها لدول أخرى في الشرق الأوسط لبنائها”.

يرى دونالد ترامب في قرارة نفسه أنّ العالم سيذعن لأهوائه ولأوامره ولما يريد أن تكون عليه الأحداث والمواجهات والخلافات وكلّ شيء

منطق رجل الأعمال

لا يتعاطى دونالد ترامب في السياسة بعقل السياسي. لا يبذل جهداً في التحوّل من رجل أعمال إلى رجل الدولة، وعوضاً أن يصعد إلى مقام قادة الدول يحاول إنزال الدولة الأميركية إلى سوق البيع والشراء. يظنّ أنّ الولايات المتحدة قدراً لكلّ العباد والبلاد، أو هي وصيّة الله على الأرض تحكم بالعيش على هذا وتسلب الحياة من ذاك. يعتقد أنّ العالم يحتاج إلى أميركا، وأنّ أميركا لا تحتاج إلى أحد ما دام يصف الآخرين بالأغبياء.

يرى دونالد ترامب في قرارة نفسه أنّ العالم سيذعن لأهوائه ولأوامره ولما يريد أن تكون عليه الأحداث والمواجهات والخلافات وكلّ شيء.

يبحث دونالد ترامب عن كلّ قطعة أرض على سطح الأرض وما خفي في باطنها يمكن أن يكونا استثماراً ناجحاً في السياحة وتراكم الثروات. يريد أن يجعل كلّ هذه البقع الجغرافية شبيهة ببرجه في لاس فيغاس “برج ترامب”.

لا يمزح الرجل معنا أيّها السادة. الرجل هكذا يرانا وهكذا يرى قوّته، وهكذا يعتقد أنّ الأمور ستسير، أبى من أبى وشاء من شاء.

ما يشجّع ترامب على هلوساته السياسية أنّ لديه شريكاً مجرماً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، اسمه بنيامين نتنياهو، كان يصلّي ليلاً ونهاراً كي يفوز ترامب بالانتخابات. هو شريك مستعدّ لأن يذهب إلى أبعد ما ذهب إليه ترامب، مقترحاً إسكان أهل غزة في الأراضي السعودية، ولتكن دولتهم هناك، متناسياً أنّه ضاع كالفأر في شوارع غزّة على الرغم من هدمه لكلّ الأحياء، وأنّ الكثير من آليّاته العسكرية تركها خلفه في جباليا، وكثيراً من سيقان جنوده وأيديهم قُطّعت إرباً إرباً وباتت من الأشلاء.

ما يشجّع ترامب على هلوساته السياسية أنّ لديه شريكاً مجرماً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، اسمه بنيامين نتنياهو

هل هذا قدرنا؟

في حوار مع الزملاء في موقع “أساس” حول كلام ترامب وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وقف الزميل أيمن جزيني فجأة قائلاً: “أميركا ليست قدراً”، فقلت له: “صديقي أيمن، عبارة جميلة. لكنّ هذه العبارة قالها ثلاثة أشخاص من قبل: الأوّل هو الحاكم العسكري الأسبق لبنما مانويل نورييغا فانتهى بالسجن يجمع النفايات، والثاني أسامة بن لادن في أفغانستان فانتهى أمره قتيلاً في باكستان ورُميت جثّته في المحيط كي لا يكون له ضريح يزوره الأتباع. والثالث قاسم سليماني في طهران على الرغم من تعاونه معهم، اصطادوه كالعصفور على أسوار مطار بغداد. انفضّ لقاء الزملاء وبقيت عبارة أيمن في الأرجاء. لقد صدق زميلنا “أميركا ليست قدراً”.

قدرنا نحن بني الإنسان كتبه خالق واحد ولا يخضع لأهواء رئيس دولة، حتى وإن كان اسمه ترامب.

قدرنا أن نحيا أعزّاء، رافعين رؤوسنا على هذه البقعة من الأرض، ومن لا يصدّق ذلك فعليه أن يعود للتاريخ ليسأل المئات من الغزاة. كم واحداً منهم مرّ على بلادنا وترك خلفه قبور جنوده وبقايا عتاده والكثير من الأشلاء. من نبوخذ نصّر وصولاً إلى أرييل شارون الذي مات ميتة الأغبياء. نسوه على فراش المرض بعدما كان يملأ الدنيا بصراخه وجبروته وكأنّ القدر أراده أن يموت هكذا منسيّاً، مرميّاً لسنوات كثيرة في المستشفى لا يلوي على شيء سوى التنفّس والبكاء.

إقرأ أيضاً: عصر “مقاومة ترامب”!

أميركا ليست قدراً ولا روسيا ولا أوروبا ولا أيّ كيان سياسي من هذه الكيانات.

أميركا نخشى عليها من نفسها. الويل لأمّة تغرق في أوهامها ويحكمها مارقون ليس لهم في قواعد الحكم ولا الحكمة قيد أنملة من الأشياء والذكاء. “إنّه الجنون المطلق”، كما قال السناتور الأميركي كريس كونز، وهي شهادة لأهله تغني عن كلّ الشهادات.

لمتابعة الكاتب على X:

@ziaditani23

مواضيع ذات صلة

سوريا: صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

تجاوز الحدث السوريّ، في جوهره العميق، فكرة سقوط نظامٍ أو قيام آخر. ما تشهده سوريا الآن ليس أقلّ من أزمة هويّة، في لحظة اختلالٍ خطيرة…

رسالة أميركيّة لإيران: ضرب الحوثيّ!

القصف الأميركي والعمليات العسكرية التصعيدية ضدّ قوّات ومعسكرات الحوثي في اليمن هي “رسالة أميركية لإيران عبر بوّابة الحوثي”.     مصدر عربي مطّلع أكّد لي…

بعد العسكريّ والسّياسيّ… “الحزب” الدبلوماسيّ؟

بدا الشيخ نعيم قاسم، في مقابلته الأخيرة، دبلوماسيّاً يعمل في وزارة الخارجية، لا أميناً عامّاً لحزب له ما له من ثقل في لبنان، والإقليم سابقاً،…

16 آذار 2025: رسالة المختارة إلى السّويداء

تختلف الذكرى الـ48 لاغتيال كمال جنبلاط في  16 آذار هذا العام عن سابقاتها. في السنوات السابقة تحوّلت الذكرى مع الوقت إلى واحد من لائحة التواريخ…