أسطورة الصّمود في غزّة

صمدت غزّة في حرب الإبادة الإسرائيلية بشكل أسطوري غير مسبوق في القرن الواحد والعشرين، لكنّ الآثار لن تنقضي بسهولة. وسيكون على الغزّيّين مقاومة التهجير الناعم، بعدما فشل الترانسفير الخشن. ستستعمل إسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة، كلّ الوسائل الدبلوماسية الممكنة لفرض التهجير تحت عناوين مختلفة، وهو من المفترض أن يكون هجرة طوعية لا قسرية، ونزوحاً مؤقّتاً إلى حين إعمار غزة، لا استيطاناً دائماً في بلاد الشتات. والذريعة ضمناً، منع حركة حماس والفصائل الأخرى من ترميم الأنفاق خلال الإعمار، أو ضرورة تجريد القطاع من السلاح ومن المسلّحين، أو ما يُطلق عليه الإسرائيليون “اجتثاث حماس”.

ملحمة تاريخيّة

روى التاريخ ملاحم قد نراها اليوم نوعاً من المبالغات غير المعقولة، من مثل نجاح عدّة آلاف أو مئات من المقاتلين اليونانيين من مدينة إسبرطة في إعاقة تقدّم الجيش الفارسي الهائل، الذي كان يتوجّه لاحتلال المدن اليونانية كلّها، وذلك حوالى 480 قبل الميلاد. المقاتلون الإسبرطيون الأشدّاء تحصّنوا في ممرّ جبلي ضيّق، وهو ما سمح بخوض معركة دامية انتهت بمقتل المدافعين كلّهم. وكان لموتهم البطولي تأثيره المعنوي اللاحق في شدّ عزائم المتردّدين في القتال. وربّما كان هذا تمهيداً للنصر اليوناني المؤزّر على الفرس في السنوات التالية.

ملحمة غزّة التي يصعب تصديقها مع أنّها كانت على مدى 15 شهراً تحت السمع والبصر، في كلّ مكان من العالم، تدفعنا إلى التصديق بإمكانية وقوع هذا النوع الأسطوري من الملاحم في التاريخ قديماً وحديثاً. فأهل غزّة الذين يعيشون على أرض منبسطة لا تضاريس منيعة فيها، صنعوا بأنفسهم تضاريسهم لزوم المعركة مع الصهاينة، من تحصينات وأنفاق. ومع الحصار المطبق عليهم، صنعوا سلاحهم بأنفسهم، وحوّلوا قنابل العدوّ وصواريخه غير المنفجرة إلى عبوات ناسفة، بل إنّهم استعملوا “الواقي الذكري” في العبوات الناسفة كما يقول الإسرائيليون. إذ كُشف أخيراً أنّ إدارة بايدن كانت “تساعد” أهل غزة أثناء الحرب بإرسال شحنات من الواقي الذكري لتنظيم النسل في غزة، بذريعة ضمان الصحّة الإنجابية للنساء في القطاع. وقامت إدارة ترامب بإلغاء هذه المساعدة وقدرها 50 مليون دولار، من ضمن الحملة التي تقوم بها وزارة فعاليّة الحكومة (DOGE)، التي يرأسها رجل الأعمال من أصل جنوب إفريقي، إيلون ماسك، لوقف الهدر وسوء استعمال أموال دافعي الضرائب الأميركيين في الإنفاق الحكومي غير المجدي.

صمدت غزّة في حرب الإبادة الإسرائيلية بشكل أسطوري غير مسبوق في القرن الواحد والعشرين، لكنّ الآثار لن تنقضي بسهولة

بالمقابل، عثر الغزّيون فيها على أداة حربية جديدة، ولم يعبؤوا كثيراً بتنظيم النسل حتى خلال الحرب. فالحرب في فلسطين المحتلّة طابعها ديمغرافي، وجعل الفلسطينيون من التكاثر على أرضهم المحتلّة سلاحاً استراتيجيّاً، منذ النكبة الأولى عام 1948، في مواجهة التطهير العرقي والترانسفير الجماعي. ونجحوا في هذا المجال إلى حدّ كبير. فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الفلسطينيين في فلسطين والعالم قرابة 15 مليون نسمة، نصفهم في فلسطين التاريخية، وهم بذلك ينافسون الإسرائيليين في هذا المضمار. وبحسب الإحصاءات الإسرائيلية، بلغ عدد سكّان إسرائيل في كانون الأوّل 2024، قرابة عشرة ملايين نسمة، منهم مليونا فلسطيني مسلم، ونصف مليون فلسطيني مسيحي. وعدد اليهود الإسرائيليين سبعة ملايين و400 ألف، أي 77% من العدد الإجمالي. في حين أنّ مؤسّسة “كلّنا لفلسطين” تقدّر عدد الفلسطينيين في العالم أو من ذوي الأصول الفلسطينية أكثر من 40 مليون فلسطيني.

خاضت إسرائيل الحرب الأخيرة بالطريقة نفسها، أي استعملت كلّ الوسائل لتخفيف الاكتظاظ السكّاني في القطاع، سواء بالقتل الجماعي المباشر بقصف المجمّعات السكنية وإبادة العائلات، أو التجويع، أو بتدمير القطاع الصحّي بكامله، بهدف رفع مستوى الوفيات بين المرضى والجرحى وكبار السنّ، وخصوصاً بين الأطفال وحديثي الولادة. حتى الاستهداف الشامل للمدنيين خلال الحرب بأسلحة فتّاكة نتجت عنه إعاقات دائمة لعدد كبير من الأطفال والشباب، وكان الهدف منه إلحاق الضرر الجسيم بأجيال كاملة حتى لا يكبر الأطفال ويلتحقوا بالمقاومة، ولا ينضمّ الشباب إليها، علاوة على حرمان الأجيال الناشئة من العلم بتدمير المدارس والجامعات وقتل الكوادر التعليمية. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بلغ عدد الشهداء في قطاع غزة حتى وقف إطلاق النار ما يقارب 47 ألفاً و500 ألف، منهم حوالى 18 ألف طفل، وأكثر من 12 ألف امرأة، إضافة الى نحو 11 ألف مفقود، أقلّ من نصفهم بقليل من النساء والأطفال (https://www.pcbs.gov.ps/site/lang__ar/1405/Default.aspx). ولذا حين تدّعي إسرائيل أنّها قتلت 20 ألف مقاوم في غزة، فإنّها تعتبر كلّ الرجال الشهداء مسلّحين، ومعهم كثير من الأطفال.

معظم أهل غزة هم من اللاجئين من أنحاء فلسطين إبّان نكبة 1948 (80%)

هجرة طوعيّة؟

إنّ معظم أهل غزة هم من اللاجئين من أنحاء فلسطين إبّان نكبة 1948 (80%). وبلغ عددهم قبل الحرب الأخيرة مليونين و400 ألف تقريباً، 47% منهم تحت سنّ الثامنة عشرة، أي ما يقارب مليون فرد. أمّا خسائر الحرب، مع خروج أكثر من مئة ألف من القطاع، فقد أنقص العدد الإجمالي 160 ألفاً، أو ما يعادل 6% من العدد المسجّل قبل الحرب، بحسب إحصاءات الجهاز المركزي.

إذا أضفنا إلى ذلك جعلَ القطاع غير قابل للحياة، وتعمُّد إسرائيل فرض النزوح على السكّان داخل القطاع، مرّات كثيرة، فإنّ الهدف الجوهري لحكومة نتنياهو لم يكن قتال حماس والفصائل الأخرى، وإنقاذ الرهائن الإسرائيليين، بقدر ما كان تقليل أعداد الفلسطينيين في المديَين القصير والمتوسّط قدر الإمكان، وهي الخطّة التي تتوّجها خطّة الهجرة الطوعية، والتي تبنّاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويحاول فرضها على مصر والأردن. فكيف تكون هجرة طوعية، وتحيط بها كلّ أدوات الضغط العسكري والدبلوماسي والمعيشي؟

إقرأ أيضاً: “إسرائيل” لم تنتصر… و”الشعب الفلسطيني” لم ينهزم

ثمّ بعد تدمير غزة بالقنابل الأميركية الثقيلة، يُقال للفلسطينيّين الآن إنّ رفع الأنقاض وحده يحتاج إلى سنوات، وإنّ إعمار ما تهدّم يحتاج إلى ما بين 10 و15 سنة. والرسالة واضحة: إذا أردتم مستقبلاً لكم ولأطفالكم، فالأفضل لكم أن تهاجروا إلى أرض الله الواسعة، وفي البلدان العربية مكان متاح لكم، فلمَ لا تسافرون إليها؟ فكان الجواب الصادم عودة أكثر من 300 ألف غزّيّ إلى الشمال المدمّر بشكل شبه كامل، في يوم واحد ما إن أُتيحت الفرصة في المرحلة الأولى من اتّفاق تبادل الأسرى.

كثير من الفلسطينيين يريد أن ينصب خيمته فوق أنقاض منزله، أو ينوي ذلك، من دون نفي احتمالات هجرة أعداد أخرى من القطاع، لتحصيل موارد التعلّم والرزق. لكنّ المحصّلة النهائية لن تكون كما يشتهي أرباب الهندسة الديمغرافية في إسرائيل والولايات المتحدة. ثمّة تأخير مؤقّت في زخم التوالد الفلسطيني، لكنّه لن يتوقّف وسيُستأنف، لأنّه جزء أساسي من المعركة الطويلة الأمد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

“حرب عالمية” بانتظار “الثنائي”!

يُكرّر وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجّار عزمه إجراء الانتخابات البلدية والنيابية في موعدها “بعد استكمال الجهوزية الإدارية واللوجستية”. من جهتها، التزمت الحكومة في بيانها الوزاري…

“الحزب” وبيئته: “لبننة” في المرحلة الانتقالية..

منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام الماضي، إلى يوم تشييع الأمينَين العامَّين لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله…

إسرائيل تخوض معركة تطبيع خاسرة

في ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى، أعلن صفقة القرن، فبدأ الحديث عن سلام آتٍ لا محالة إلى المنطقة. السنوات التي مرّت جعلت هذا الملفّ…

سلام في الجنوب المحتلّ: أولويّاتي إعادة الإعمار!

يَضغط لبنان على واشنطن كي تدفع إسرائيل للانسحاب كلّيّاً من لبنان ووقف انتهاكاتها، وتوحي واشنطن بالضغط على إسرائيل لمنعها من تكريس حالة الاحتلال، فيما الضوء…