الرياض
للمرّة الأولى، يُفتح باب جديد أمام الأدب السعودي ليُترجم إلى السويديّة، في خطوة غير مسبوقة تضع النصوص العربية في حوار ثقافي عابر للحدود. وذلك ضمن مشروع “مبادرة ترجم” التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية، ضمن جهودها لدعم الحراك الترجميّ في السعودية، وإثراء المحتوى العربي بموادّ مترجمة ذات قيمة.
تكتسب أربعة أعمال أدبية سعودية، تتنوّع بين الشعر والرواية والقصّة القصيرة، بعداً جديداً بلغة تُعيد تشكيل حضورها في سياق أدبيّ مختلف، لتكون نقطة لقاء بين الذات السرديّة العربية والخيال الأدبيّ السويدي، ضمن مسعى جديد إلى توسيع آفاق الترجمة. وتهدف هذه المبادرة إلى مدّ جسور ثقافية بين العربية وغيرها من اللغات العالمية، بما يعزّز التواصل المعرفيّ ويُثري المشهد الأدبي.
تضمّن المشروع ترجمة نصوص أدبية تنتمي إلى فنون مختلفة كالشعر والسرد والرواية، منها رواية “في ديسمبر تنتهي كلّ الأحلام” لمؤلّفتها أثير عبدالله النشمي، وكتاب “ومضات سيريّة” (يستعرض سيراً ذاتية نسائية) بإشراف الدكتورة نوال السويلم، إضافةً إلى ديوان “مقام النسيان” للشاعر محمد إبراهيم يعقوب، ومؤلَّف “في الميزان” للشاعر والأديب حاتم الشهري.
تمثّل هذه الترجمة حدثاً محوريّاً في المشهد الثقافي، حيث يُعاد تشكيل النصوص في قالب يحمل روح الأصالة ورهانات التجديد. فهي ليست أعمالاً تُنقل من لغة إلى أخرى وحسب، بل محاولات عميقة للكشف عن الأنماط البشرية المعقّدة، والبحث في ثنائيّة الألم والجمال، والتفاعل مع الإيقاع السرديّ الذي يحاكي التجربة الإنسانية بكلّ تناقضاتها وانسياباتها الشعوريّة.
تحمل النصوص طاقة لغويّة متدفّقة، تنبع من البساطة الذكيّة والتفاصيل المشحونة بالدلالة. إنّها كتابات تكشف عن تعقيدات الحياة اليومية، حيث تكمن العظمة في التفاصيل الدقيقة، من لحظة عابرة إلى موقف وجوديّ يظلّ عالقاً في الذاكرة. قصصٌ تحمل روح التمرّد المتواضع، والتحرّر الإنساني العميق، ودفاعاً دؤوباً عن العلاقات الإنسانية الهشّة في عالم يميل نحو العزلة.
خطوة استراتيجيّة
في حديث إلى “أساس ميديا”، يلفت مترجم هذه الأعمال الصحافي السوري عبداللطيف حاجّ محمّد المقيم في السويد منذ 11 عاماً، إلى أنّ “وصول الأدب المكتوب باللغة العربية إلى القارئ السويدي، يعدّ خطوة استراتيجية تعزّز من الحوار الثقافي بين الشرق والغرب، وتضع الأدب العربي في موضع التفاعل الإبداعي الخلّاق”. ويرى أنّ هذه الترجمة ليست جسراً بين لغتين وحسب، بل هي إعادة خلق للنصّ في سياق جديد، حيث تلتقي الأصوات المتباينة لتشكّل رؤية أدبية أكثر شمولية وتنوّعاً.
الصحافي عبداللطيف حاجّ محمّد المقيم: وصول الأدب المكتوب باللغة العربية إلى القارئ السويدي، يعدّ خطوة استراتيجية تعزّز من الحوار الثقافي بين الشرق والغرب
“في هذه النصوص، تنبعث أصوات فريدة، وتتشكّل المشاهد عبر إيقاع الكلمات، حيث يتردّد صدى إشارات الهواتف، خطوات المارّة، ونبض المجتمع الذي يعلو بين السطور”، يقول حاج محمد. ويضيف: “هذا الإنجاز الأدبي، الذي يجمع بين التقليدي والمعاصر، يفتح آفاقاً جديدة للاعتراف بالأدب السعودي عالميّاً، ويؤسّس لمرحلة جديدة من الانفتاح الثقافي المتبادل”.
يرى حاج محمد أنّ “الترجمة ليست استعارة يمكن تطبيقها على أيّ شيء (كما أنّ أيّ شيء يمكن استخدامه كاستعارة للترجمة)، وليست موضوعاً خصباً للتنظير من مختلف الزوايا الممكنة، بل هي ممارسة مهنيّة، وهي في الوقت ذاته مهنة لبعض الأشخاص. إذا كان هناك شيء أفتقده في النقاش الدائر حول الترجمة، فهو الاعتراف بهذه الفجوة بين التنظير والممارسة، إضافة إلى إبداء الاحترام للمعرفة المهنيّة التي يمتلكها المترجمون”.
يتابع: “لا أريد تقديم صورة مبالغ فيها بعض الشيء عن كوني إنساناً.. لأنّه بطريقة ما، عندما أترجم، لا أكون “إنساناً” بالمعنى المعتاد. أو بالأحرى، بالطبع أنا كذلك، لكن أثناء الترجمة، أنا في المقام الأوّل مترجم”. ويؤكّد أنّه “يلتزم بمجموعة من المعايير والقواعد. الترجمة بالنسبة لي تتأرجح بين سؤالين أساسيَّين: “ماذا يريد النص؟”، و”ماذا يسمح النص؟”، وبين هذين القطبين أحاول التحرّك والترجمة”.
ويشير حاج محمد إلى أنّ “هناك بالطبع مساحة معيّنة من الحرّية ضمن هذه الحدود، ولا شكّ أنّ الترجمة نشاط إبداعي، لكنّها ليست اختياراً للكلمات الجميلة كما لو كنت تجمع خرزاً في لوحة فنّية…. على سبيل المثال، علّمتني أختي الصغيرة أنّ هذا يسمّى “التخريز”، وهي كلمة جميلة في حدّ ذاتها”.
ليست الترجمة نقل لغة إلى أخرى وحسب، بل هي فعل وجوديّ، وفلسفيّ، وإنسانيّ يتجاوز الحدود، ويهدم الجدران التي تفصل البشر بعضهم عن بعض
ضرورة تتجاوز الكلمات
ليست الترجمة نقل لغة إلى أخرى وحسب، بل هي فعل وجوديّ، وفلسفيّ، وإنسانيّ يتجاوز الحدود، ويهدم الجدران التي تفصل البشر بعضهم عن بعض. إنّها وسيلة لفهم الآخر، وفهم الذات من خلال هذا الآخر. الترجمة هي اعتراف صامت بأنّنا جميعاً جزء من قصة أكبر، وأنّ اللغة ليست سوى وسيلة لربط حكاياتنا بعضها ببعض، في السعي إلى الحرّية الشخصية، ومن ناحية أخرى الوعي المؤلم لكون المعنى يتمّ خلقه من خلال التاريخ والمجتمع. لكنّ هذه الثنائيّة هي التي تجعل الترجمة مثيرة للاهتمام. إنّها حركة ذات مرحلتين: من البراءة إلى التجربة، ومن التجربة إلى البراءة التجريبية.
عبر هذه الترجمات، ينقل حاج محمد جوهر النصوص العربية، بكلّ ما تحمله من صور شعرية غنيّة وأفكار فلسفية عميقة، ويعيد تشكيلها بلغة سويدية أنيقة تتيح للقارئ السويدي ليس فقط أن يقرأ، بل أن يشعر، أن يتأمّل، وأن يعيد اكتشاف نفسه في الكلمات القادمة من بعيد. إنّ الترجمة تشبه الصعود على متن رحلة لا تأخذك عبر الزمان والمكان فحسب، بل تشرح لك أيضاً الزمان والمكان، كما تكتب إيميرا درومبرغ.
الترجمة هي اعتراف صامت بأنّنا جميعاً جزء من قصة أكبر، وأنّ اللغة ليست سوى وسيلة لربط حكاياتنا بعضها ببعض
يقول حاج محمد: “بالنسبة لي، مترجماً مهاجراً، لا تمثّل هذه الكتب نصوصاً تُنقل إلى لغة أخرى، بل هي وسيلة لفهم التحوّلات الثقافية التي أمرّ بها شخصيّاً… عندما أقوم بإعادة صياغة تجربة أدبية سعودية باللغة السويدية، فإنّني أُترجم شيئاً من ذاتي أيضاً. أترجم إحساس التشتّت، الحاجة إلى الانتماء، ومحاولات الحفاظ على اللغة الأمّ وسط محيط جديد”.
يؤكّد أنّ “كلّ ترجمة قمت بها حملت أسئلة جوهرية: إلى أيّ مدى يمكن للّغة الجديدة أن تحتفظ بذاكرة النصّ الأصليّ؟ وكيف يمكن أن تُقرأ التجربة السعودية من خلال عدسة القارئ السويدي؟ تلك الأسئلة لم تكن تحدّيات تقنيّة وحسب، بل كانت صراعاً يومياً بين الحفاظ على الجوهر والانفتاح على الآخر”.
إقرأ أيضاً: جوائز “Joy Awards” السّعوديّة: رسائل سلام.. ومشاهير العالم
يمثّل هذا المشروع أكثر من تفاعل أدبيّ. إنّه “محاولة لسدّ الفجوة بين “الآخر” و”الأنا”، فالترجمة في سياق الهجرة تأخذ بعداً مزدوجاً: فهي وسيلة لإدخال الأدب السعودي إلى المجتمع السويدي، لكنّها في الوقت ذاته وسيلة لاستيعاب الثقافة الجديدة وفهمها”، كما يعلّق حاج محمد. ويختم بالقول إنّها “عملية تفاوض مستمرّة بين العادات، والتقاليد، واللغة، والجذور. وكما هو الحال في الترجمة، حيث نسعى إلى إيجاد مكافئ دقيق لكلّ عبارة، كذلك تجربة الهجرة هي بحث عن مكافئ جديد لكلّ جانب من جوانب الحياة القديمة”.
لمتابعة الكاتب على X: