حقّق سيف الإسلام القذافي “نصراً كاسحاً” في الانتخابات البلدية التي شهدتها ليبيا، كما سمّاه، في تشرين الثاني الماضي. حين شارك 74% من الليبيين في تلك الانتخابات.
وذلك في حين أنّه بعد سقوط النّظام السّوريّ وظهور معالم الصّورة الجديدة للمنطقة وإعادة ترتيب مشهدها، تنتظرُ ليبيا دورها في هذا الشأن. وقد كانَ واضحاً أنّ قرار سقوط نظام الأسد لا يعني فقط إخراج إيران من سوريا، بل يشملُ معها ضرب نفوذ روسيا في منطقة البحر المُتوسّط. وبالتّالي فإنّ شرق ليبيا هو واحدٌ من مناطق النّفوذ التي توغّلَت إليها موسكو بعد ما عُرِفَ بـ”الرّبيع العربيّ”.
فكيف سيتشكّل المشهد الليبي بعد عودة القذّافي إلى الصورة وبدء خروج الصراع الأميركي الروسي إلى العلن هناك؟
تشهدُ ليبيا في الآونة الأخيرة أزمةً سياسيّة عنوانها اشتباكٌ سياسيّ بين حكومة طرابلس الغرب المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدّبيبة، ومجلس النّواب الذي يرفض إقرار موازنة لحكومة منتهية الصّلاحية. وزادَ الطّين بلّة ما كشفته وزيرة الخارجيّة في حكومة طرابلس نجلاء المنقوش حول لقائها وزير الخارجيّة الإسرائيليّ السّابق إيلي كوهين قبل عامٍ ونصف. والجلبة التي رافقت هذا الكشف وإقالة المنقوش والحملة عليها بعد موجة غضب شعبي…
حقّق سيف الإسلام القذافي “نصراً كاسحاً” في الانتخابات البلدية التي شهدتها ليبيا، كما سمّاه، في تشرين الثاني الماضي. حين شارك 74% من الليبيين في تلك الانتخابات
أميركا تريد إخراج روسيا…
تترافق هذه الأزمة في غربِ ليبيا مع وصولِ تعزيزات روسيّة وعناصر سوريين من النّظام السّوريّ السّاقط من قاعدة حميميم على السّاحل السّوريّ إلى شرق ليبيا. بحسب معلومات “أساس” فإنّ المئات من ضبّاط وعناصر النّظام، وكثيرٌ منهم كانوا من عديد “الفرقة 25 – قوّات خاصّة” بقيادة اللواء سهيل الحسن المُلقّب بـ”النّمر”، غادروا سوريا باتّجاه الجبهة الأوكرانيّة وشرق ليبيا.
تُحاول موسكو أن تجعَل من “فرقة النّمر” صورةً أخرى من “منظّمة فاغنر” التي تقلّصَ نفوذها في سوريا وليبيا والسّودان والنّيجر بعد اغتيال قائدها يفغيني بريغوجين في آب 2023، إثر خلافاته العلنية مع الرئيس فلاديمير بوتين.
أثارَ مجيء التّعزيزات الرّوسيّة إلى شرقِ ليبيا، والانقسام السّياسيّ في غربها حفيظة الدّول الغربيّة. وبالتّالي تسعى واشنطن إلى مرحلةٍ انتقاليّة جديدة في ليبيا، لكن بمشهدٍ مختلف. حاول الدّبيبة قبل أيّام أن يُقدِّمَ أوراقَ اعتمادٍ لواشنطن بتحذيره من تحوّل ليبيا إلى ساحةِ صراعٍ بين الدّول الكبرى.
يقول مصدرٌ دبلوماسيّ أميركيّ على صلة بالملفّ الليبيّ لـ”أساس” إنّ قرار واشنطن بضرب نفوذ روسيا في المنطقة يشملُ ليبيا أيضاً، وإنّ أيّ تسوية مع روسيا حولَ أوكرانيا بعد تولّي دونالد ترامب السّلطة لن يُتاحَ خلالها لموسكو البقاء في ليبيا حيثُ النّفط والغاز في البرّ والبحر.
تُحاول موسكو أن تجعَل من “فرقة النّمر” صورةً أخرى من “منظّمة فاغنر” التي تقلّصَ نفوذها في سوريا وليبيا والسّودان والنّيجر
كما ترتبطُ العقوبات غير المسبوقة، التي فرضتها إدارة بايدن قبل أيّام على ناقلات النّفط الرّوسيّة والنّاقلات التي تستخدمها موسكو، باستغلال الكرملين للنّفط الليبيّ. بحسب المصدر، فإنّ واشنطن كانت على اطّلاع على كلّ تحرّكات ناقلات النّفط التي كانت تُرسِلها موسكو من ليبيا إلى السّواحل السّوريّة، والتي كانَ يتقاسمها النّظام السّوريّ السّابق والحزب في لبنان. كما يؤكّد المصدر أنّ الحزبَ اعتمَدَ في السّنتيْن الأخيرتيْن على الأموال التي كانت تدرّها هذه النّاقلات عليه. إذ كانَ النّظام و”الحزب” يبيعان ناقلات “البنزين والدّيزل” بأسعار أقلّ من القيمة السّوقيّة بهدف تحويلها إلى مالٍ طازج (Fresh Dollars).
أميركا تريد “تكنوقراط” رئيساً للحكومة
تدفعُ هذه الأسباب واشنطن لإقصاء روسيا، وبالتّالي إعادة تكوين المشهد الليبيّ على الصّورة الآتية:
- إعادة ترتيب المشهد السّياسيّ بين شرق البِلاد وغربها عبر حكومة تكنوقراط تُشرفُ على إجراء انتخاباتٍ رئاسيّة ونيابيّة. ويُطرَحُ في الكواليس اسماء “تكنوقراط” لرئاسة الحكومة الجديدة.
- تشكيل حكومة جديدة مع إبقاء مشهد حكم اللامركزيّة بين الشّرق والغرب والجنوب وتحصين المشهد الليبيّ بما يضمن إقصاء النّفوذ الرّوسيّ من البِلاد بشكلٍ تامّ.
ترتبطُ العقوبات غير المسبوقة، التي فرضتها إدارة بايدن قبل أيّام على ناقلات النّفط الرّوسيّة والنّاقلات التي تستخدمها موسكو، باستغلال الكرملين للنّفط الليبيّ
- التّعاون مع مصر وتركيا لضمان أمن الطّاقة في غرب البلاد وشرقها. إذ إنّ لدى القاهرة هواجس تتعلّق بالأمن القوميّ المصريّ على طول الحدود المُشتركة مع ليبيا التي تمتدّ من سواحل البحر الأبيض المُتوسّط وصولاً إلى النّقطة الثّلاثيّة بين ليبيا ومصر والسّودان بطول يساوي 1115 كلم.
كما أنّ تركيا تتمتّعُ بنفوذٍ واسع في مناطق غرب ليبيا، لكنّ تحسّن العلاقات بين القاهرة وأنقرة يتيحُ لواشنطن العمل على إعادة تكوين المشهد الليبيّ. - إنّ دعمَ القاهرة للجيش الوطنيّ في السّودان وتقدّم الأخير في مناطق مختلفة على حساب “قوّات الدّعم السّريع”، لا ينفصل عمّا هو مُتوقّع في المُقبل من الأيّام في ليبيا، خصوصاً أنّ موسكو تقف إلى جانب “الدّعم السّريع” في السّودان.
- يُضاف إلى ما سلف العلاقة المتينة التي تربطُ الرّئيس المصريّ عبدالفتّاح السّيسي والرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان بالرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب.
- تظهر ترتيبات المشهد السّوداني بين القاهرة وأنقرة في تقدّم الجيش السّوداني وسطَ تقديم إردوغان لمبادرة تركيّة لإنهاء الحرب. ولا ينفصل ما وثّقه السّفير التّركيّ في الخرطوم بعدسة هاتفهِ عن “فرحة أهالي بورتسودان بتقدّم قوّات الجيش السّوداني على حساب الدّعم السّريع”.
السّبب في امتناع حكومة عبدالحميد الدّبيبة عن إجراء انتخابات رئاسيّة في ليبيا يعودُ إلى ارتفاع أسهم سيف الإسلام القذّافي
صعودُ القذّافي مجدّداً؟
السّبب في امتناع حكومة عبدالحميد الدّبيبة عن إجراء انتخابات رئاسيّة في ليبيا يعودُ إلى ارتفاع أسهم سيف الإسلام القذّافي، نجل الزّعيم الليبيّ الرّاحل معمّر القذّافي.
أظهرَت الانتخابات البلديّة التي شهِدتها ليبيا في تشرين الثّاني الماضي عودَة شعبيّة سيف الإسلام القذّافي، الذي أعلنَ تحقيق “نصر كاسح” في الانتخابات وقالَ ببيان مُقتضبٍ: “نقول للذين يحاولون طمسَ هذه الحقيقة: لن تُفلحوا ولو كانَ بعضهم لبعضٍ ظهيراً”.
تقدّمت اللوائح المدعومة من سيف الإسلام القذّافي في بعض المناطق التي كانَت تُعتبر معقلاً للتظاهرات التي خرجَت في عام 2011 للمطالبة بإسقاط النّظام مثل مدينة مصراتة. واللافتُ أنّ نسبة المشاركة في العمليّة الانتخابيّة بلغت 74% من مجموع النّاخبين المُؤهّلين.
باتت ليبيا على مشارفِ مشهدٍ جديد. يعكسُ هذا المشهد ما صدَحَت به جماهير إحدى مباريات كرة القدم في العاصمة طرابلس قبل أسابيع قليلة أعادَت إلى الذّاكرة مرحلة ما قبل 2011
في وقتٍ سابق من عام 2021 كانت صحيفة فايننشيل تايمز البريطانيّة قد ذكرت أنّ الحنين لحكم معمّر القذّافي قد يدعم فرص سيف الإسلام بالرّئاسة. وذكرَت الصّحيفة في تقريرها أنّ “الكثير من الليبيين لديهم الحنين إلى الماضي، عندما كانت الدولة مستقرّة ومتّحدة وتتمتّع بالرخاء، حتى وإن كان ذلك تحت الحكم الاستبدادي السّابق لمعمّر القذافي، وهذا ما قد يستغلّه سيف الإسلام”.
نقلَت الصّحيفة عن المحلّلة في مجموعة الأزمات الدّوليّة كلوديا غازيني أنّ قسماً وازناً من الشّباب الليبيّ سيقولون إنّ تحذيرات سيف الإسلام خلال الانتفاضة من أنّ ليبيا ستنقسم، وأنّ القبائل سوف تنقلب بعضها على بعض، كانت صحيحة.
هكذا باتت ليبيا على مشارفِ مشهدٍ جديد. يعكسُ هذا المشهد ما صدَحَت به جماهير إحدى مباريات كرة القدم في العاصمة طرابلس قبل أسابيع قليلة أعادَت إلى الذّاكرة مرحلة ما قبل 2011، حين تحوّلَت الهتافات من تشجيعٍ رياضيّ إلى الهتاف الذي اشتُهِرَ به جمهور آل القذّافي: “الله – ليبيا – معمّر وبس”.
إقرأ أيضاً: روسيا إلى ليبيا: وداعاً سوريا
لمتابعة الكاتب على X: