دمشق تدخّلت إيجاباً… في انتخاب عون

مدة القراءة 5 د

في 15 كانون الأوّل 2024، أي بعد أسبوع من سقوط نظام الأسد في سوريا، نقلت وسائل الإعلام موقفاً لقائد الإدارة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، وُصِفَ بأنّه “تأييد بلا تحفّظ” لانتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية. قالت المعلومات إنّه قرن هذا الموقف “المفاجئ” بتأكيد أنّ الأمر يعود إلى اللبنانيين، وإنّه “لا تدخّل بعد الآن لسوريا في شؤون لبنان”. ولا نعرف حتى الآن ما إذا كان رجل سوريا القويّ “لا ينطق عن هوى”، أمّا أنّ الأمر زلّة لسان.

 

في لبنان من اعتبر أنّ تصريح الشرع “غير ملائم” ينبش ذكريات كانت فيها دمشق تقرّر هويّة الساكن الجديد في قصر بعبدا، وتقرّر إمكانية التمديد له في قصره. ولمّا كان “العتب على قدر المحبة”، كرّر الشرع، لا سيما حين التقى الوفد اللبناني الدرزي الذي قاده وليد جنبلاط، أنّه لن تكون سوريا “حالة تدخّل سلبيّ في لبنان على الإطلاق”، مضيفاً أنّ بلاده ستكون “على مسافة واحدة من الجميع”، على الرغم ممّا فعله بعض هذا الجميع. تمنّى الرجل أيضاً أن “تُمحى الذاكرة السوريّة السابقة من أذهان اللبنانيين”.

في لبنان من اعتبر أنّ تصريح الشرع “غير ملائم” ينبش ذكريات كانت فيها دمشق تقرّر هويّة الساكن الجديد في قصر بعبدا

لم يرُق للمحلّلين أنّ تصريح الشرع بشأن جوزف عون بريء من معطيات جديّة يمتلكها الرجل. لاحظ هؤلاء أنّ الرجل أبلى بلاء “مثالياً” خالياً من أيّ زلّات أو عثرات في كلّ المقابلات الإعلامية التي أجراها، لا سيما مع CNN الأميركية وBBC البريطانية و”العربية” السعودية، وأنّه سرد مواقف شديدة الدقّة لا تحتمل اجتهاداً أو لبساً في ما أدلى به للصحافة الدولية، أو في اجتماعاته مع الوفود الأجنبية والعربية والرسمية، أو تلك التي جمعته مع وفود سوريّة متعدّدة المشارب، وأنّ من السذاجة إدراج الموقف المؤيّد لعون في سياق شطط الكلام.

في بيروت من رأى أنّ سوريا الحالية لا تمتلك التدخّل في شؤون لبنان ولا تمتلك النفوذ اللازم لذلك، وأنّ الشرع لم يقصد أبداً التدخّل في شأن انتخاب رئيس لبناني، علاوة على أنّه لا يحظى حتى الآن بدالّة داخل برلمان لبنان تقلب موازين القوى حين صدور موقف من دمشق. غير أنّ غلاة البحث عن عبق ما بين السطور أشاروا إلى أنّ الرجل قد وعد بأن لا تكون لبلاده حالة تدخّل “سلبيّ” في لبنان، لافتين إلى أنّه لو اعتبرنا جدلاً أنّ موقف الشرع هو تدخّل في شأن استحقاق سيادي تعذّر منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأوّل 2022، فإنّه في انتخاب رئيس للبنان أخيراً، وفي انتخاب جوزف عون بالذات، تدخّل “إيجابي” لا يتناقض البتّة مع وعود الرجل وعهوده.

في بيروت من رأى أنّ سوريا الحالية لا تمتلك التدخّل في شؤون لبنان ولا تمتلك النفوذ اللازم لذلك

تدخّل خارجيّ ضروريّ

الواقع أنّ انتخاب جوزف عون أتى هذه المرّة، بشكل واضح ومباشر وشبه معلن، نتيجة تدخّل خارجي كان ضرورياً لانتشال البلد من مأزقه الرئاسي. بدا أنّ استنفاراً منسّقاً مدعّماً بحشود دبلوماسية أميركية فرنسية سعودية، نفّذ إنزالاً فرض على قوى الحلّ والربط في لبنان انتخاب عون من دون غيره. لم يكن أمر هذه الرياح الخارجية جديداً على انتخاب أيّ رئيس في البلد.

لم يكن أمر الوصايات الخارجية إلّا من قواعد العملية السياسية اللبنانية، لا سيما منذ انتهاء الحرب الأهلية وإبرام اتفاق الطائف عام 1989. وثبت بالدليل عجز البلد عن إنتاج رئيس من دون “أمر عمليّات” خارجي، بنسخة جلفة هذه المرّة، نقلتها الزميلة كلير شكر في “أساس”، في ردّ الموفد الفرنسي جان إيف لودريان على المتبرّمين من الإملاء بقوله: “هذا هو قرارنا”.

الحدث السوري الجلل قلب على نحو دراماتيكي تاريخي المعادلات الداخلية في لبنان وأطاح بموازين القوى الإقليمية على حساب نفوذ إيران في المنطقة

لكن بعيداً عن تأويلات ما قصده الشرع في تأييده انتخاب عون، فإنّ سوريا الجديدة ما بعد سقوط النظام في 8 كانون الأوّل 2024، تدخّلت، سواء تعمّدت ذلك أم لا، في إنهاء فراغ رئاسي شلّ النظام السياسي في لبنان، وفي إجماع القوى الخارجية متقاطعة مع قبول شعبي وسياسي شبه عامّ لتبوّؤ عون هذا المنصب. لم يخفِ “الحزب”، خلال فترة الشغور الرئاسي، توجّسه من احتمال انتخاب عون رئيساً، ولم يوارِ رئيس مجلس النواب نبيه بري رفضه له وتمسّكه و”الثنائي” بسليمان فرنجية مرشّحاً وحيداً.

إقرأ أيضاً: أين الفلسطينيّون من الإلهام اللّبنانيّ؟

 

الحدث السّوريّ قلَب المعادلات

كان ذلك قبل “سقوط دمشق”. لكنّ الحدث السوري الجلل قلب على نحو دراماتيكي تاريخي المعادلات الداخلية في لبنان وأطاح بموازين القوى الإقليمية على حساب نفوذ إيران في المنطقة وعلى حساب تمدّدها اللبناني الذي كان يهدّد قبل أيام بـ “7 أيار” جديد. هبّت رياح جديدة في الشرق الأوسط أتت بالشرع إلى دمشق وفرضت عون رئيساً جديداً للجمهورية في لبنان، وربّما لولا تلك الرياح الدمشقية لما بزغ “عهد” رئاسي جديد في لبنان.

مواضيع ذات صلة

ميقاتي والشّرع: مرحلة انتقاليّة واحدة… في بلدين

دمشق لطالما كان نجيب ميقاتي رجل المراحل الانتقالية. وقليلاً ما كان لبنان مستقرّاً. كأنّي به وطناً انتقاليّاً في حالة ترحالٍ دائمٍ، من خضّةٍ إلى أزمةٍ،…

العراق: السوداني “يرفض” توجيهات المرشد الإيراني..

وصل رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني إلى العاصمة الإيرانية طهران، في زيارة سريعة ليوم واحد، التقى فيها الرئيس مسعود بزشكيان وتباحث معه في الموضوعات…

برّي استوعب باكراً التّغيير في سوريا فاعتمد “التّوافق”

لا جدال في حقّ النوّاب، لا سيما التغييريّين، الذين اعترضوا على تدخّل “القناصل” في تحديد اسم رئيس لبنان ورفضهم المسّ بـ”السيادة”. إلّا أنّ اتّخاذ البعض…

خطاب القَسَم المكتوب “بالسّكين”..

يقف الرجل في ناصية البرلمان. الأنظار كلّها مشدودة إليه. والجميع يريد أن يسمع أوّل كلامه السياسي، بعد رحلته المستدامة مع العسكر. كان خطابه مدوّياً ومهولاً،…