الأرجح أنّها أكثر الجلسات الانتخابية، غرابة. في ظروفها المتقلّبة بفعل انقلابات الخارج والداخل. في تعقيداتها التي استعصت على دول القرار في حلّها وتفكيكها. في خواتيمها الهائمة في ضبابية التضارب بين المحلي والإقليمي، لتجعل أكثر من ماروني، ينام رئيساً، فيستيقظ مرشّحاً بين مرشحين.
هكذا، لم يغب الاستحقاق الرئاسي عن جدول أعمال الموفد الأميركي آموس هوكستين، سواء في لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كرّر أمامه إلزامية مرور قائد الجيش العماد جوزف عون بممرّ التعديل الدستوري، أو في لقائه مع ممثّلي الكتل النيابية حيث عدّد سلسلة مواصفات قال صراحة إنّها تنطبق على قائد الجيش “الذي نحترمه ونثق به”. لكنّه في المقابل، رأى أنّها تنطبق على غيره. غير أنّ بعض متلقّفي هذه الفقرة المستقطَعة، وضعوها فوراً في إطار اللياقات الدبلوماسية التي لا تغيّر في الجوهر شيئاً… فيما البعض الآخر “شطح” في تفسيراته إلى حدّ البحث عن مرشّح بديل أو عن “بدل عن ضائع”. لتستقرّ بورصة الاتصالات المستجدّة على اسم جهاد أزعور.
قبل ساعات من دخول النواب القاعة العامة لمجلس النواب لانتخاب رئيس في جلسة بدت مصيرية في ظروفها، كيف تبدو الصورة؟
في الواقع، حفلت الأيام الأخيرة بالكثير من التطوّرات المهمّة التي حرّكت مياه الرئاسة الراكدة منذ الجلسة الانتخابية الأخيرة التي عُقدت في 14 حزيران 2023. ويمكن اختصار المُعطيات الجديدة بالآتي:
– حسم كلام الموفدين الأميركي والسعودي اللغط حول وضعية ترشيح قائد الجيش، ليثبتا ولو بالتلميح، أنّ العماد عون هو المرشّح المفضّل للإرادة الدولية بشروط صارت معروفة. في المقابل، لم يتخلَ الثنائي الشيعي عن رفضهما لهذا الترشيح الذي يصنّفانه بمثابة “كسْرة” رئاسية لهما تُضاف إلى “الكسْرة” العسكرية التي تعرّضا لها.
باسيل: من الطبيعي أن يكون اسم جهاد أزعور مطروحاً منّا لأننا نعتبره اسماً توافقياً
لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح
– لا يزال مسار الجلسة الانتخابية ضبابياً، ولو أنّ مصيرها معروف لجهة صعوبة انتخاب رئيس للجمهورية، بفعل عدم تمتع أيّ مرشّح بـ65 صوتاً، وعدم قدرة العماد عون على بلوغ عتبة الـ86 صوتاً نتيجة رفض الثنائي الشيعي له. إلّا أنّ المُضمَر إلى الآن، هي الاتجاهات التي ستسلكها الكتل النيابية في تصويتها… خصوصاً وأنّ الانخراط الدولي في اللعبة الرئاسية، جعلها أشبه بطاولة شطرنج، بلونين فقط: أبيض أو أسود. بمعنى مع جوزف عون أو ضدّه.
لهذا، نشطت الاتصالات في الساعات الأخيرة بين الكتل النيابية، في محاولة للاتفاق على مرشّح “يرضي الإرادة العربية والدولية”، سواء على ضفة الثلاثي “أمل”- “الحزب”- “التيار الوطني الحرّ”، أو على ضفة الكتل الأخرى التي انقسمت بين خيار التصويت لقائد الجيش وبين التصويت لجهاد أزعور.
– رمى رئيس “القوات” سمير جعجع الكرة في ملعب الثنائي الشيعي الرافض لترشيح جوزف عون، ليبرّر عدم السير به في جلسة الخميس، وليرفع من منسوب التشكيك في تأييده لوصول عون إلى الرئاسة.
اذ قال جعجع أمس “أصبح واضحاً وجليّاً أنّ جماعة الممانعة مع “التيار الوطني الحرّ” يرفضون العماد جوزف عون في رئاسة الجمهورية، وبهذا، أسقطوا ترشيحه تلقائياً، وفي الأحوال كافة، إذا بدّل فريق الممانعة رأيه وبشكل علني وواضح، بإعلانه رسمياً ترشيح العماد جوزف عون، فنحن مستعدون للنظر بإمعان في هذا الأمر”.
شطب سيناريو التهريبة
– ما بات محسوماً هو شطب سيناريو “الرئيس التهريبة”، كما تصفه المعارضة، أي أن ينجح الثلاثي المذكور أعلاه في تأمين 65 صوتاً لمرشح مدعوم من جانبهم، خصوصاً وأنّ الانخراط الدولي، دفع العديد من النواب المتردّدين إلى التراجع قليلاً إلى الوراء، وإعادة ترتيب حساباتهم. كما أنّ قطر أبلغت العديد من النواب خلال الساعات الأخيرة أنّها على مسافة واحدة من كلّ المرشّحين، ما يعني نفض يديها من ترشيح اللواء إلياس البيسري، الذي كان الأكثر حظوظاً في تأمين 65 صوتاً بفعل الدفع القطري وتبنّي “الثنائي” له.
لا يزال مسار الجلسة الانتخابية ضبابياً، ولو أنّ مصيرها معروف لجهة صعوبة انتخاب رئيس للجمهورية، بفعل عدم تمتع أيّ مرشّح بـ65 صوتاً
– ما تسرّب عن آموس هوكستين، يشي بأنّه ثمّة تنسيق عالٍ بين واشنطن والرياض في ما خصّ الملف الرئاسي، وهو قال ذلك بوضوح أمام النواب الذين التقاهم صباح أمس في دارة النائب فؤاد مخزومي. كما تحدّث عن حرية خيارات النواب في انتخاب الرئيس. لكن في المقابل، وكنوع من التهديد المبطّن، للدول الأخرى وخياراتها في التعامل مع لبنان في حال لم يستوِ حاله ووضعه الدستوري والسياسي، ولها خياراتها في كيفية الاستثمار فيه. وهذا ما يدفع للاعتقاد أنّ الدعم الغربي والخليجي في لبنان لن يخرج عن الشروط الإصلاحية الموضوعة، حتى لو كان يستهدف إعادة الإعمار.
قال أيضاً إنّ لبنان خرج نهائياً من دائرة الحروب، وإنّ إسرائيل ستنسحب بالكامل من الأراضي اللبنانية، وإنّ اتفاق وقف إطلاق النار سيطبّق بالكامل.
إعادة تعويم أزعور
– تحرّكت “القوات” في الساعات الأخيرة على خطّ إعادة تعويم ترشيح جهاد أزعور الذي يشكّل تقاطعاً مع رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل، وعلى قاعدة أنّه مقبول دولياً. لكن تبيّن أنّ أزعور كان حتى ساعات مضت، لا يزال موضع تشاور من جانب “الثنائي الشيعي”، الذي أبلغ أصدقاءه أمس أنّه متمسّك بترشيح البيسري، وسيعمل على توسيع قاعدة المؤيدين له.
البعض الآخر “شطح” في تفسيراته إلى حدّ البحث عن مرشّح بديل أو عن “بدل عن ضائع”. لتستقرّ بورصة الاتصالات المستجدّة على اسم جهاد أزعور
في المقابل، تردّد أنّ باسيل التقى أمس النائب علي حسن خليل، وقد تمّ التوافق على ترشيح أزعور. كما يُقال إنّ هوكستين اختلى بأحد النواب خلال جلسة مخزومي الصباحية، ليشيد أمامه بصفات أزعور.
وقال باسيل أمس: “مرشّحنا هو التوافق الذي يقتضي عدم وجود غالب ومغلوب. وننادي بالمرشّح التوافقيّ. ومن الطبيعي أن يكون اسم جهاد أزعور مطروحاً منّا لأننا نعتبره اسماً توافقياً، وأتمنّى أن يوافق الثنائيّ على اسمه”.
إقرأ أيضاً: برّي: لا إرجاء للجلسة ما لم تطلبه علناً كتل وازنة
في الخلاصة، يتبيّن أنّ النواب الـ128 بدوا أمس في حالة إرباك غير مسبوقة: السعودي قال كلمته، فيما الأميركي ترك ثغرة تسمح بالتأويل والاجتهاد. الثنائي الشيعي متمسّك برفضه العماد عون، وهو يتقاطع بذلك مع الثنائي المسيحي: جبران باسيل بالمباشر، وسمير جعجع بالمواربة. فهل تحمل الدورات الثانية أو الثالثة أو الرابعة الانتخابية، مفاجأة غير محسوبة؟ هل يصير جهاد أزعور رئيس ربع الساعة الأخير؟ أم يكون التأجيل “تلتيّ المراجل”؟
لمتابعة الكاتب على X: