الاقتصاد السّياسيّ لإعادة الإعمار: سقوط معادلة 2006

مدة القراءة 9 د

عندما سئل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة عام 2007 عن حجم المساعدات الإيرانية لإعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، كان جوابه بأنّه لا يعلم. والواقع أنّ أحداً في الدولة اللبنانية لا يعلم.

كانت إعادة الإعمار بعد حرب 2006 معادلة مكسورة التوازن بين الدولة و”الحزب”. وكان ذلك درساً يسترجعه كثير من المعنيين الآن، فيما يقف المواطنون على أنقاض منازلهم المدمّرة منتظرين فرق الكشف التي يرسلها “الحزب”، وشيكاتهم المخيّبة لآمال الكثيرين.

 

بحسب البيانات الرسمية التي نشرها السنيورة، تسلّمت الهيئة العليا للإغاثة مساعدات بقيمة 1.55 مليار دولار لإعادة الإعمار بعد حرب 2006، من ضمنها مساهمات من الدول العربية تقارب 1.2 مليار دولار، بالإضافة إلى 374 مليون دولار من الحكومة اللبنانية. وكانت السعودية المساهم الأكبر بمساعدات وصلت قيمتها الإجمالية إلى 734 مليون دولار، شاملة التعويضات للأبنية المهدّمة ومشاريع البنى التحتية والتعليم وغيرها. وتلتها الكويت بنحو 315 مليون دولار. وفوق ذلك، أودعت السعودية مليار دولار في مصرف لبنان لدعم الاستقرار النقدي، وأودعت الكويت نصف مليار إضافية.

سنت واحد من إيران لم يُقدَّم؟

في المجمل، قدّمت الهيئة العليا للإغاثة تعويضات لنحو 115 ألف وحدة متضرّرة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، بتكلفة 724 مليون دولار. وقد تكفّلت السعودية وحدها بأكثر من 54 ألف وحدة، بقيمة 309 ملايين دولار، أي بنحو نصف الوحدات المتضرّرة، فيما تكفّلت الكويت بنحو 11 ألف وحدة، بتكلفة قاربت 102 مليون دولار. وتكفّلت الدولة اللبنانية بأكثر من 41 ألف وحدة، بتكلفة بلغت 252 مليون دولار. وتوزّعت الوحدات الباقية على العراق والبحرين وإندونيسيا، فيما قدّمت دولٌ وجهات أخرى المساعدات بشكل مباشر، لا من خلال الهيئة العليا للإغاثة. إذ تعهّدت قطر بتقديم نحو 300 مليون دولار، تكفّلت من خلالها إعادة بناء عدد من القرى، ومرافق أخرى من ضمنها كلّ دور العبادة الإسلامية والمسيحية.

“الحزب” يضع العبء الماليّ الأكبر على الدولة المفلسة والعاجزة عن الدخول إلى أسواق الدين العالمية للاقتراض

أمّا إيران فلم تقدّم سنتاً واحداً للهيئة العليا للإغاثة، ولم تعلن حجم مساعداتها. ومن اللافت أنّ رئيس الهيئة الإيرانية للمساهمة في إعمار لبنان المهندس حسام خوشنويس تملّص من الإجابة على سؤال بهذا الشأن في مقابلة مع صحيفة “الانتقاد” التابعة لـ”الحزب” عام 2010، واكتفى بالقول: “من المستحيل أن أختصر ما قمنا به من مشاريع برقم، فالميزانية ليست رقماً بل فعل، وكيف يمكننا أن نتحدّث عن أرقام ماليّة أصلاً في ظلّ التضحيات التي قدّمها الشعب اللبناني والتي لا تقدّر بثمن؟!”.

في العموم، تذكر الهيئة الإيرانية أنّها قامت بتجهيز 73 مكاناً للعبادة (مع العلم أنّ قطر تكفّلت بتكاليف بناء أماكن العبادة بالكامل)، بالإضافة إلى المراكز التربوية والمستشفيات والمستوصفات والجسور وتعبيد الطرق، ومشاريع لخدمة البلديات والمشاريع التجميلية والملاعب الرياضية والمكتبات العامّة، لكن من دون أن تذكر تكاليف تلك المشاريع. ومعلوم أنّها موّلت المساعدات العاجلة التي قدّمها “الحزب” للإيواء فور انتهاء الحرب. إلا أنّ الأكيد أنّ الهيئة الإيرانية لا تدّعي أنّها أنفقت سنتاً واحداً لتعويضات إعادة بناء المباني المتضرّرة، وليس في سجلّات الدولة اللبنانية أنّها تسلّمت أيّة مساعدات منها لهذه الغاية.

إيران لم تقدّم سنتاً واحداً للهيئة العليا للإغاثة، ولم تعلن حجم مساعداتها

ملايين العرب وحكاية “وعد”

كان الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله قد تعهّد خلال حرب 2006 بإعادة بناء المنازل المدمّرة “أجمل ممّا كانت”. لكنّه أوضح بعد الحرب أنّ إعادة البناء مسؤولية الدولة. وتمكّن حزبه من الإمساك بمئات ملايين الدولارات من أموال التعويضات التي قدّمتها الدول العربية من خلال إطلاق شركة “وعد” لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية، التي لم يكن أمام المتضرّرين خيارٌ سوى أن يسلّموها أموال التعويضات لتتولّى إعادة البناء وتسليمهم وحداتهم جاهزة. وتقول “وعد” إنّها قامت ببناء 242 مبنى، بزيادة 34 مبنى على المباني المهدّمة. ولم يتمّ نشر بيانات مدقّقة عن التكاليف، إلّا أنّ “وعد” تؤكّد أنّها وصلت إلى 400 مليون دولار، وتسلّمت من الأهالي 180 مليون دولار فقط، وغطّت الفارق في التكاليف. في حين أنّ البيانات الحكومية تشير إلى إنفاق 374 مليون دولار لإعادة إعمار الضاحية، من ضمنها تعويضات إعادة البناء والبنى التحتية ورفع الأنقاض.

لا شكّ أنّ إعادة الإعمار شابها فساد واسع، إلى جانب الهيمنة الحزبية. فمن المعروف والشائع وقوع مبالغات في مسح الأضرار، بحيث تصبح الوحدة السكنية المدمّرة وحدتين أو ثلاثاً أو أربع. وهذا ما يدفع الجهات المانحة إلى اشتراط آليّات للتدقيق والحكمة في أيّة مساعدات مقبلة لإعادة الإعمار.

إلّا أنّ الأهمّ يبقى في الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار. فالمعادلة التي طبّقتها إيران عمليّاً في 2006 هي أنّها تتولّى تمويل المؤسّسات الحزبية المرتبطة بها عضويّاً، بما في ذلك التمويل العسكري، فيما تترك أعباء فاتورة التعويضات وإعادة الإعمار لتقع على عاتق المانحين من الدول العربية.

قدّمت الهيئة العليا للإغاثة تعويضات لنحو 115 ألف وحدة متضرّرة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، بتكلفة 724 مليون دولار

لكن بعد حرب 2024، يبدو الأمر أكثر تعقيداً. فالتقديرات الأوّلية تشير إلى دمار كلّي لنحو 400 مبنى في الضاحية الجنوبية، أي ما يقارب ضعف حجم الدمار في 2006. وبحسب “الدولية للمعلومات”، أظهرت المسوحات دماراً كلّياً لـ 50 ألف وحدة سكنية وتجارية، من بينها 9,000 وحدة في الضاحية الجنوبية لبيروت و6,000 في البقاع و5,500 شمال الليطاني و25 ألف وحدة جنوب الليطاني، علاوة على 317 ألف وحدة متضرّرة جزئيّاً أو بشكل بسيط. ولا شكّ أنّ هذه الأرقام ستتغيّر بشكل جذري حين يكتمل المسح في القرى الحدودية التي احتلّتها إسرائيل خلال الحرب.

مع الأخذ في الاعتبار فروق التضخّم، لا شكّ أنّ تكلفة إعادة الإعمار ستكون أضعاف ما كانت عليه في 2006. وبعد نحو أربعين يوماً على توقّف الحرب، ما من أفق واضح لتمويلها. وما ذلك إلّا نتيجة الضعف والوهن اللذين وقعت فيهما الدولة اللبنانية إثر هيمنة إيران و”الحزب” على قرارها ومؤسّساتها على مدى العقدين الماضيين.

نعيم قاسم يوزّع تركة الدّمار

في خطابه بتاريخ 6 كانون الأوّل الفائت، أعلن الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم توزيع أعباء الإيواء والإعمار بين “الحزب” والدولة على النحو التالي:

1- صرف “هديّة” من “الحزب” لـ 233 ألف عائلة، بقيمة تراوح بين 300 و400 دولار لكلّ منها، بإجمالي 77 مليون دولار.

2- صرف 8,000 دولار بدل أثاث لكلّ أسرة فقدت مكان سكنها الأساسي، بالإضافة إلى بدل إيجار لمدّة سنة يصل إلى 6,000 دولار في بيروت والضاحية، أو 4,000 دولار خارج بيروت. وبحسب التقديرات الأوّلية، قد تراوح تكلفة هذه البدلات بين 400 و450 مليون دولار لنحو 30 ألف أسرة خسرت سكنها الأوّلي.

كانت إعادة الإعمار بعد حرب 2006 معادلة مكسورة التوازن بين الدولة و”الحزب”

3- تتولّى الدولة رفع الأنقاض ومعالجة البنية التحتية ووضع برنامج لتكلفة ترميم المنازل وإعادة الإعمار، على أن “يساعد “الحزب” في ترميم العطاءات (…) إذا افترضنا أنّ ما تقدّمه الحكومة كان فيه بعض النواقص في بعض المجالات”، بحسب تعبير قاسم. ولا شكّ أنّ هذا الشقّ يشكّل أكثر من 90% من تكاليف الحرب.

الإشكال في هذا التوزيع أنّ “الحزب” يضع العبء الماليّ الأكبر على الدولة المفلسة والعاجزة عن الدخول إلى أسواق الدين العالمية للاقتراض منذ أن أعلنت التعثّر رسمياً في آذار 2020. ويدرك “الحزب” أنّ عجز الدولة عن النهوض بهذا العبء سيضعف الالتفاف حوله في بيئته المتضرّرة. وخلافاً لما كان عليه الحال في 2006، فإنّه ليس في موقعٍ يمكّنه من فرض الشروط على الدولة والجهات المانحة.

إعادة الإعمار

ولذلك تقف إيران بين خيارين صعبين:

1- الأوّل أن تتقدّم إلى التعويض بنفسها، وهذا مستبعد بالنظر إلى التكلفة المرتفعة، ولأنّ هناك حساسية متصاعدة في الداخل الإيراني تجاه تقديم المليارات لرفاه شعب آخر، فيما يقبع 19 مليون إيراني تحت خطّ الفقر، وفق آخر تقرير للبنك الدولي. ولا شكّ أنّ هذه الحساسية تتزايد في ظلّ النقاش الداخلي الدائر حول الاستثمار المفرط الضائع في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وجدوى الاستمرار في سياسة تصدير الثورة وما تجرّه من عقوبات وسوء أحوال المعيشة.

لا شكّ أنّ تكلفة إعادة الإعمار ستكون أضعاف ما كانت عليه في 2006

2- الثاني أن تتجرّع كأس الاعتراف بالدولة اللبنانية، والتعامل معها ككيان ذي سيادة. فلم يعد من الوارد استخدام هذا الكيان الهشّ كقناة لاستقبال الهبات وتحويلها إلى أداة تمكين إضافية لهيمنة “الحزب” على الحياة العامّة والموارد الاقتصادية والبنية التحتية في البيئة الشيعية. وهذا ما يعبّر عنه في تصريحات مسؤولي “الحزب” بوضع شروط سياسية لإعادة الإعمار. وأوضح ما يتطلّبه هذا الخيار السماح ببسط سلطة الدولة على أراضيها كافّة، وعودة الانتظام إلى المؤسّسات الدستورية، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية.

يضاف إلى هذه التعقيدات الوضع المحيط في المنطقة. فأولويّات المانحين تتوزّع بين غزّة التي تتعرّض لحرب إبادة إسرائيلية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وسوريا حيث بدأت تتكشّف الصور المفزعة للدمار الشامل لأحياء بكاملها في دمشق ومحيطها، وكثير منه كان بصواريخ إيران و”الحزب”.

إقرأ أيضاً: فائدة الـ 45% على الودائع: للتّحكّم باللّيرة حدود

كلّ ذلك يجعل ملفّ إعادة الإعمار محاطاً بإطار سياسي لا مفرّ منه. وأيّ حديث عن استعداد طهران للنهوض بالأمر وحدها وأنّ هناك من يسعى لمنعها، ليس إلّا للاستهلاك الإعلامي المحلّي في بيئة “الحزب”. أمّا المؤشّر الفعلي لمقاربة إيران و”الحزب” للواقع الجديد فسيكون في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الخميس.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

لنعالج الفقر… “سرطان العالم”

وفق البنك الدولي، ما يقارب 80% من سكّان لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر! معركتنا ضدّ الفقر وتداعياته هي المعركة الوحيدة الجامعة لكلّ مكوّنات المجتمع اللبناني….

جردة مالية لـ2024: استقرار نقدي… وفشل سياسي – اقتصادي

عام 2024 شهد لبنان استمراراً في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية بشكل يعكس أزمة هيكلية متعدّدة الأوجه. كان الفراغ الرئاسي والجمود السياسي مظاهر واضحة لعجز النخب…

فائدة الـ 45% على الودائع: للتّحكّم باللّيرة حدود

بدأت بعض البنوك باستقبال الودائع بالليرة اللبنانية بفوائد تصل حتى 45% لأجل سنة. ليست هذه الخطوة خارجة عن المألوف في البلدان الناشئة، لكنّها تشير في…

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…