فائدة الـ 45% على الودائع: للتّحكّم باللّيرة حدود

مدة القراءة 9 د

بدأت بعض البنوك باستقبال الودائع بالليرة اللبنانية بفوائد تصل حتى 45% لأجل سنة. ليست هذه الخطوة خارجة عن المألوف في البلدان الناشئة، لكنّها تشير في الحالة اللبنانية إلى أنّ الأدوات المستخدمة لتثبيت الاستقرار النقدي منذ منتصف 2023 بدأت تستنفد فاعليّتها.

صحيح أنّ هذه الخطوة تطرح أسئلة أخلاقية حول سياسة تجاهل حقوق المودعين القدامى، لكن في المبدأ يمكن سرد أسباب كثيرة تجعل من معدّل الفائدة المرتفع منطقيّاً، وهنا بعضها:

1- ليست نسبة الـ 45% غير مألوفة في البلدان ذات التضخّم المرتفع والعملات الضعيفة. ففي تركيا ما زالت الفائدة الرسمية عند 47.5% بعد سلسلة من التخفيضات آخرها الأسبوع الماضي، وفي مصر ما زالت عند 27.5%، وفي الأرجنتين ما زالت عند 32% بعد سلسلة من التخفيضات الحادّة من ذروة وصلت إلى 160% العام الماضي. ولبنان ليس أفضل حالاً من هذه الدول.

بدأت بعض البنوك باستقبال الودائع بالليرة اللبنانية بفوائد تصل حتى 45% لأجل سنة

2- في النظريّة الاقتصادية، يفترض أن تكون الحصيلة الإجمالية للفائدة وسعر الصرف متساوياً بين مختلف البلدان على المدى البعيد، وبالتالي الفائدة المرتفعة يمحوها انخفاض العملة، وفقاً لنظريّة “تعادل معدّل الفائدة”(Interest Rate Parity- IRP) . ولذلك عندما تكون الفائدة على الإيداع 45% فإنّ هذا يعكس، نظريّاً على الأقلّ، تسعيراً لمخاطر التضخّم وتراجع سعر الصرف بما يكافئ هذه النسبة على مدى العام المقبل. وهذا التسعير منطقيّ لوضع لبنان الراهن، خصوصاً بعد الحرب.

3- في كلّ الأحوال، لا يمكن للبلد أن يستمرّ بلا سعر فائدة، وبلا قطاع مصرفيّ قادر على استقبال الودائع لأجل (هل يعقل أنّ معدّل الفائدة على الودائع بالليرة كان أقلّ من 1% في أيلول الماضي، وفق تقرير جمعية المصارف؟! هل هذا معدّل فائدة يعكس واقع البلد وعملته واقتصاده؟). فعندما تعود البنوك لتسعير الفائدة على الإيداع بالليرة بعد خمس سنوات من الغياب، ليس غريباً أن تكون الفائدة عند هذا المستوى المرتفع. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الودائع الزمنيّة هي المكوّن الأكبر لمعروض النقد بمفهومه الواسع (M2). والنظام المالي يفتقد منذ أزمة 2019 لأيّة إمكانية لاحتساب معروض النقد، سواء بالمفهوم الواسع أو بالمفهوم الضيّق، لأنّ الرقم المعلن للودائع تحت الطلب رقم وهميّ، و”الودائع لأجل” لا وجود لها. كلّ ما في الأمر أنّ هناك ودائع هي بالاسم فقط تحت الطلب، لكنّ الجميع يعرف أنّها مسجّلة في الدفاتر بقيمةٍ وهمية.

المشكلة في فائدة الـ 45% أنّها ليست خطوة على طريق تطبيع وضع القطاع المصرفي بقدر ما هي إشارة إلى أنّ سياسة ضبط الكتلة النقدية بالليرة بدأت تواجه إشكالات جدّية

شحّ معروض اللّيرة في النّظام الماليّ

لكنّ المشكلة في فائدة الـ 45% أنّها ليست خطوة على طريق تطبيع وضع القطاع المصرفي بقدر ما هي إشارة إلى أنّ سياسة ضبط الكتلة النقدية بالليرة بدأت تواجه إشكالات جدّية.

يتعلّق الأمر بمواجهة شحّ معروض الليرة في النظام المالي، إلى الحدّ الذي دفع المصارف إلى دفع فوائد جنونيّة للحصول على السيولة القليلة المتوافرة في سوق ما بين البنوك (الإنتربنك)، ووصلت في بعض الأحيان إلى 160% (بلغ المعدّل المثقل لفائدة الإنتربنك 93% في أيلول و79% في تشرين الأوّل، بحسب التقرير الشهري لجمعيّة المصارف). ولذلك وجدت البنوك أنّ دفع 45% للعملاء أقلّ تكلفة من دفع 160% لبنوك أخرى.

لكنّ الإشكال أنّ هذه الخطوة لن تؤدّي إلى جمع ودائع بأرقام معتبرة ما لم يضخّ مصرف لبنان المزيد من الليرات في السوق. فالكتلة النقدية بالليرة المتداولة حاليّاً لا تتجاوز 49.8 تريليون ليرة، أي أقلّ من 560 مليون دولار وفق سعر الصرف الرسمي. وهذا الرقم بالكاد يكفي للإنفاق اليومي للأسر وتشغيل قطاعات الأعمال. ومن المستبعد جدّاً أن تكون فيه نسبة معتبرة من المدّخرات القابلة للتحويل إلى ودائع لأجل.

البديل إذاً أن تتحوّل كميّة معتبرة من المدّخرات الدولاريّة في البيوت والخزائن إلى ليرات طمعاً بنسبة الفائدة المرتفعة على الليرة، وفي هذه الحال يضخّ مصرف لبنان الليرات في السوق ويجمع المعروض من الدولارات مقابلها، فيزيد احتياطاته بالعملات الأجنبية، ويزيد في المقابل معروض النقد بالليرة. لكنّه سيأخذ في اعتباره أنّ كلّ دولار سيشتريه بـ 89,500 ليرة اليوم سيضطرّه إلى إصدار نحو 40 ألف ليرة إضافية بعد سنة لتدفع البنوك الفوائد عليه. وبالتالي، تعود الكتلة النقدية للارتفاع بمعدّل يفوق زيادة الاحتياطي الأجنبي لديه، فيصبح التحكّم بسعر الصرف أصعب.

هل هناك ما يدفع مصرف لبنان لفعل ذلك؟ نعم، بكلّ تأكيد.

ما فعله حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري منذ منتصف 2023 كان واقعيّاً، وحقّق نتائج جيّدة قياساً بالواقع المزري الذي تسلّمه

نتائج جيّدة حقّقها منصوري

ما فعله حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري منذ منتصف 2023 كان واقعيّاً، وحقّق نتائج جيّدة قياساً بالواقع المزري الذي تسلّمه، إذ إنّه أعاد تثبيت سعر الصرف عند 89,500 ليرة، وكان بالإمكان رفعه بما بين 10% و20% في منتصف الصيف الماضي، لولا أنّ مصرف لبنان كان يتدخّل في السوق شارياً لفائض المعروض من الدولارات، وهذا ما أدّى إلى رفع حجم الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى مصرف لبنان بنحو مليارَي دولار قبل الحرب (يبلغ حاليّاً 10.1 مليارات دولار، كما في منتصف كانون الأوّل 2024).

لكنّ هناك حدوداً لما يمكن تحقيقه “بعدّة شغل” مختصرة نتيجة لتعثّر الدولة وانهيار القطاع المصرفي، وتعثّر مصرف لبنان نفسه. عمليّاً، يدير منصوري السياسة النقدية من دون سعر فائدة، ومن دون شباك حسم، ومن دون عمليّات سوق مفتوحة، ومن دون سوق سندات حكومية ومن دون سوق يوروبوندز. ولذلك كانت أداته الأساسية التحكّم الصارم بحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وهذه أضيق أداة قابلة للاستخدام. إذ إنّه خفضها بنحو 20 تريليون ليرة على مدى عام ونصف عام.

قامت هذه السياسة على تعميق الدولرة، من خلال:

1- دفع رواتب القطاع العامّ بالدولار بدلاً من الليرة، وهو ما أدّى إلى زيادة معروض الدولار في السوق.

2- القطاع الخاصّ يبيع الدولار ويشتري الليرة لدفع الرسوم والضرائب. فيقوم مصرف لبنان بجمع الدولارات المعروضة في السوق، فيما تذهب الليرات إلى حساب الدولة لدى مصرف لبنان، ولا تعود إلى السوق إلّا وفق سياسة الإنفاق المضبوط المتّفق عليها بين الحكومة ومصرف لبنان، فيما تعود الرواتب بالدولار، وليس بالليرة.

لنجاح سياسة الدولرة هذه لا بدّ من شرط بدَهيّ هو أن يكون هناك ما يكفي من الدولارات للتداول في السوق، وهذا يقتضي تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، بحيث يكون حجم الدولارات التي تدخل النظام المالي أكبر من حجم الدولارات التي تخرج منه، وإلّا فإنّ معروض النقد بالدولار سيصبح أقلّ من حاجة الاقتصاد، ولن يتمكّن مصرف لبنان من الاستمرار بضخّ الدولارات عبر رواتب القطاع العامّ والتعميمين 158 و166.

مواجهة آثار العدوان الإسرائيلي في حرب الـ 66 يوماً ستفرض تحدّيات كبيرة على سياسة ضبط الكتلة النقدية في الأشهر المقبلة

من الواضح أنّ هذا الفائض يتحقّق بالفعل على الرغم من تداعيات الحرب الأخيرة، بدليل ارتفاع الاحتياطات الأجنبية السائلة لدى مصرف لبنان بنحو 1.7 مليار دولار منذ صيف 2023، وارتفاع صافي إيداعات البنوك لدى البنوك المراسلة والمؤسّسات المالية الأجنبية إلى أكثر من 1.5 مليار دولار (لا بدّ من الإشارة إلى غياب الإحصاءات الرسمية لميزان المدفوعات، وقد كان المعيار البديل لتقديره هو التغيّر في صافي الموجودات الأجنبية لدى مصرف لبنان والبنوك، لكنّ هذا المعيار لم يعد صالحاً لأسباب تقنيّة تتعلّق بتغيير طريقة احتسابها).

ما أسباب فائض ميزان المدفوعات؟

يعود الفائض في ميزان المدفوعات بالأساس إلى ثلاثة أسباب:

1- توقّف الدولة عن خدمة ديونها الأجنبية منذ آذار 2020، وهو ما وفّر أكثر من مليارَي دولار سنوياً.

2- انكماش حجم الاقتصاد وتقلّص فاتورة السلع والخدمات المستوردة.

3- التزام الدولة بسقف للإنفاق الحكومي يحقّق لها فائضاً في الميزانية، ويحول دون اضطرار مصرف لبنان إلى إقراضها عبر طبع المزيد من الليرات.

لكنّ استمرار هذا النموذج للتحكّم النقدي يتطلّب استمرار الاقتصاد بالعمل بالحدّ الأدنى (safety mode)، بحيث لا يتوسّع الإنفاق الحكومي، ولا يحصل القطاع الخاصّ على تمويل مصرفيّ للاستثمار، ولا يتوسّع إنفاق الأُسر عبر الائتمان، وهذه هي المكوّنات الثلاثة الأساسية للنموّ الاقتصادي. وإذا كانت هذه السياسة مبرّرة ومفهومة بعد أزمة طاحنة، فإنّها بلا شكٍّ لا تبني الاقتصاد، ولا تسمح بنموّ المداخيل.

الأهمّ أنّ مواجهة آثار العدوان الإسرائيلي في حرب الـ 66 يوماً ستفرض تحدّيات كبيرة على سياسة ضبط الكتلة النقدية في الأشهر المقبلة ما لم تتدفّق المساعدات الخارجية لتمويل إعادة الإعمار. وذلك لسببين على الأقلّ:

1- فاتورة الاستيراد ستقفز بشكل هائل لتوفير موادّ البناء والأثاث وغيرها من المستلزمات، وهو ما سيشكّل ضغطاً على موارد العملة الصعبة.

2- الإنفاق الحكومي على رفع الأنقاض وإصلاح البنية التحتية والتعويضات سيشكّل تهديداً لسياسة الإنفاق المنضبط التي كانت ركيزة أساسية للاستقرار النقدي.

إقرأ أيضاً: هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

لا شكّ أنّ مخصّصات الإيواء، التي وزّعها “الحزب” في الأسابيع الماضية (نحو 70 مليون دولار)، شكّلت دعماً لمعروض الدولار في السوق عوّض جزءاً من الآثار الكبيرة للعدوان الإسرائيلي على النشاط الاقتصادي، لكنّها تبقى نقطة في بحر الاحتياطات المطلوبة لمرحلة إعادة الإعمار. لذلك استمرار الاستقرار النقدي يبقى رهناً بالمساعدات الخارجية، وبما يرتبط بها من إعادة ترتيب البيت السياسيّ والأمنيّ في مرحلة ما بعد الحرب.

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…