التّاجر السّوريّ الجديد في الخليج العربيّ..

مدة القراءة 7 د

بعد وفاة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، اجتمع كلٌّ من الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك بالدكتور بشار الأسد في دمشق، وقال الملك عبدالله للابن بشار: “عرفت عمّك منذ أكثر من نصف قرن، ثمّ عرفت والدك وربطت بيننا صداقة قويّة قائمة على الصدق، والآن عليك أن تسير على نهج الوالد، وثق أنّي والأخ حسني سوف نكون خير سند لك”.

عاد الملك (الذي كان يشغل منصب وليّ العهد وقتها) وقال: “سوف أبيت الليلة وأطيل إقامتي في دمشق حتّى أقابل غداً خدّام والشهابي وطلاس، الذين هم رجال النظام في عهد والدك، وأؤكّد لهم أنّنا نقف معك حتى لا يلعب أيّ منهم ضدّك”. ثمّ عاد الملك وكرّر: “المهمّ في علاقتنا استمرار الصدق كأساس”.

 

مرّت الأيام وكذب بشار الأسد على الملك عبدالله والرئيس مبارك، ونفى أيّ مسؤولية عن مؤامرة اغتيال الشهيد رفيق الحريري. وكعادته، وبصراحته المعهودة، واجه الملك عبدالله الرئيس بشار وقال له وجهاً لوجه: “أنت كاذب، أنت قتلت رفيق الحريري”.

بدء العدّ التّنازليّ لخروج الدّور السّعوديّ

منذ هذا التاريخ، بدأ هذا العدّ التنازلي لخروج الدور السعودي من سوريا ولبنان، وتلاه فقدان الاهتمام الخليجي بهذا الملفّ حتى أصبحت العلاقات في أدناها، بلا دعم، بلا تبادل تجاري، بلا تنسيق سياسي، بلا حركة سياحية، بلا تأشيرات سفر.

في اللقاء الأوّل بين الرئيس بشار الأسد ووليّ العهد السعودي في 18 أيار 2023 في الدورة الـ32 للقمّة العربية التي دُعي إليها الرئيس السوري، كان اللقاء صريحاً واضحاً من قبل الأمير محمد بن سلمان، حدّد فيه الرجل كعادته شكل العلاقة الجديدة القائمة على مبدأ خطوة مقابل خطوة، والتقدّم فيها بناء على وفاء كلّ طرف بالتزاماته ووعوده.

لم يفهم الرئيس بشار كلام الأمير محمد. ارتكب عن جهل وعن تعمّد الخطأ ذاته في التعامل مع الزعامات الخليجية على قاعدة “تطييب خاطرهم بكلمتين، ثمّ أفعل ما أشاء من سياسات”.

تؤكد المصادر المطّلعة أنّ تركيا تشجّع التقارب بين النظام الحالي في سوريا والدول المانحة

هذا المنهج، أي منهج التاجر الشاميّ الذي يبيعك كلاماً بدلاً من أن يبيعك بضاعة سليمة صالحة، لا يفلح مع زعامات مثل الشيخ محمد بن زايد أو الأمير محمد بن سلمان أو الشيخ تميم بن حمد. هذا الجيل من الزعامات عمليّ براغماتيّ، واثق، يؤمن بالفعل الصريح الواضح القائم على الإنجاز والالتزام بالاتّفاقات المحدّدة.

منذ القمّة الأولى التي حضرها الرئيس بشّار، لم يحدث أيّ تقدّم في أيّ من المجالات التي جرى الحوار فيها، ولم ينجز أيّ خطوة فعليّة في هذه المجالات:

1- إعادة النازحين وتهيئة مناخ عودتهم.

2- الحوار المنفتح مع كلّ أطياف المجتمع والمعارضة.

3- بدء حركة إصلاحات سياسية.

4- تخفيض مستوى العلاقة مع النظام الإيراني في الداخل السوري، وتخفيف وجود عناصر الحرس الثوري في البلاد.

5- العمل على تليين موقف “الحزب” إزاء تحسين الأوضاع في لبنان، وتحديداً عدم عرقلة انتخاب رئيس توافقي.

إحباط دول الخليج

بلغت المشاعر في العواصم الخليجية حدّ الإحباط الشديد من نتائج محاولات إعادة تأهيل نظام الأسد. بالمقابل شعر الجانب الروسي بخيبة أمل من ضعف الأداء الأمنيّ للجيش السوري في حفظ الأمن في مناطق متعدّدة من البلاد، حتى إنّ ما يعرف بالشرطة العسكرية الروسية أصبحت مسؤولة عن تأمين المرجع الأمنيّ في العاصمة دمشق.

بلغ الإحباط السياسي التركي مداه حينما فشلت خمس محاولات ووساطات من أنقرة لترتيب لقاء بين إردوغان وبشار من أجل بحث ملفّات:

1- عودة النازحين.

2- أمن الحدود.

3- الأكراد.

4- الوجود العسكري التركي.

كان الردّ السوري يتّسم دائماً بالرفض وعدم الرغبة في اللقاء، كما الانسحاب الكامل للوجود العسكري التركي من أيّ بقعة سورية. وكان بشار يردّ: “لا معنى لأيّ لقاء بيني وبينه الآن إلّا إذا كان الغرض أن يقتصر الأمر على جلسة تصوير تذكارية وتبادل المرطّبات”، على حدّ وصفه.

 تتوقّع مراكز الأبحاث الإسرائيلية أن تكون تحالفات النظام الجديد في سوريا نسخة مطابقة لتحالفات النظام التركي الحالي

سقط النظام في سوريا نتيجة فشل الحكم، ورعاية تركيّة لبعض فصائل المعارضة، وفقدان الأمل لدى دول الخليج.

مفتاح العلاقة السّوريّة – التّركيّة

يبقى مفتاح المستقبل في شكل العلاقات السورية – التركية. المتأمّل بشكل محايد لتاريخ العلاقات التركية – السورية، يكتشف أنّها مزيج من الشدّ والجذب، التقارب الشديد والتهديد بالحرب، التعاون الاقتصادي ثمّ الغزو وضمّ الأراضي.

أوّل هذه التناقضات تجلّى حينما قامت تركيا بغطاء فرنسي بضمّ لواء الإسكندرون إلى أراضيها عام 1938. وقامت تركيا في الثمانينيّات بحشد قوّات على الحدود وضمّ الأراضي بين البلدين. واعتبرت دمشق التقارب الأمني والعسكري بين إسرائيل وتركيا نوعاً من التهديد المباشر لها.

سوريا

حصل التغيير مع زيارة الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر لدمشق في عام 2000 وتوقيع اتفاقات أمنيّة بين البلدين تقضي بالتخلّص من وجود حزب العمّال الكردستاني على الأراضي السورية، ثمّ زيارة الرئيس بشار الأسد عام 2004 لتركيا، لتقلب بداية صفحة جديدة. لكنّ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا  أثار علامات استفهام ومخاوف في دمشق.

علاقة ملتبسة للغاية، فأحياناً تهدّد تركيا بالحرب (عام 1998)، وتارة تكون الراعية والوسيط الأساس في المفاوضات الوحيدة بين سوريا وإسرائيل في منطقة “واي ريفر” الأميركية.

كان رفض الرئيس بشار الأسد للعرض القطري – التركي الذي تقدّم به كلٌّ من الأمير حمد بن خليفة والرئيس إردوغان لتمرير خطّ الغاز القطري عبر سوريا إلى تركيا كي يغذّي دول البحر الأسود ووسط أوروبا، أحد الأسباب غير المعلنة لزيادة التدخّلات الخارجية من أجل تحسين الأوضاع الداخلية في سوريا عقب تظاهرات درعا.

تحالفات دمشق… نسخة عن تحالفات تركيا

الآن يمكن القول إنّ أنقرة هي الراعي والضامن والموجّه والمرشد للنظام الجديد في سوريا، لكن من دون تأثير إيراني أو روسي على النظام الجديد.

من نصائح النظام التركي لنظام “هيئة تحرير الشام” ضرورة تحسين العلاقات بأسرع وقت مع دول الخليج العربي

من هنا تتوقّع مراكز الأبحاث الإسرائيلية أن تكون تحالفات النظام الجديد في سوريا نسخة مطابقة لتحالفات النظام التركي الحالي، أي يصادق من تصادق تركيا ويعادي من تعاديه.

من نصائح النظام التركي لنظام “هيئة تحرير الشام” ضرورة تحسين العلاقات بأسرع وقت مع دول الخليج العربي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لأنّ هذه الدول هي التي بيدها:

1- رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية عن سوريا.

2- تقديم الدعم السريع واللازم لإعادة تأهيل سوريا للمرحلة المقبلة.

3- القدرة على إعادة إسكان اللاجئين والنازحين.

4- إعادة إعمار المناطق المنكوبة جرّاء الحرب الأهلية السورية.

تُقدّر أرقام هذه الأعمال بما لا يقلّ في المرحلة الأولى عن 80 إلى 100 مليار دولار أميركي. ولا يمكن للاقتصاد السوري المنهار أن يفي إلّا بما لا يزيد على 5% من هذه الفاتورة، وتبقى البقيّة اللازمة على عاتق الدول المانحة (الخليج، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة).

إقرأ أيضاً: سوريا الجديدة: نبوءة لم تتحقّق وسرّان كبيران

تؤكد المصادر المطّلعة على هذه التفاصيل أنّ تركيا تشجّع التقارب بين النظام الحالي في سوريا والدول المانحة، أو التي يفترض أن تكون كذلك، حتى تلعب أنقرة دورها المفضّل، وهو دور مقاول إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والنازحين السوريين.

تبدأ حركة المصالح التركية بالسياسة وتمرّ بالأمن من أجل أن تنتهي دائماً بالنفع الاقتصادي.

تلك هي المسألة!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Adeeb_Emad

مواضيع ذات صلة

ترسيم الحدود مع سوريا وتحدّيات القرارين 1680 و1701 (3/1)

بعد إبرام اتّفاق وقف إطلاق النار بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومة بنيامين نتنياهو، الذي نصّ في بنده الأخير على تسوية نقاط الخلاف بشأن الحدود…

إعفوا عن السُّنّة كي يعفوا عنكم

ليست مصادفه أن يكون مطلب سُنَّة العراق اليوم إقرار قانون العفو العامّ متوازياً مع مطلب سُنّة لبنان إقرار قانون العفو العامّ أيضاً لإطلاق سراح الموقوفين…

العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة… مشقّة التاريخ والجغرافيا

لا ينفك لبنان يتحمّل مشقّة الجغرافيا. هي المشقّة لوجوده بين دولتين: إسرائيل التي لا يعترف بها، وسوريا التي لا تعترف به وطناً مستقلّاً، حتى عام…

سوريا الجديدة: نبوءة لم تتحقّق وسرّان كبيران

منذ الستّينيات تنبأ حنّا بطاطو الأستاذ يومها بالجامعة الأميركية ببيروت أنّ مشكلات داخلية كبرى ستحصل بالعراق لأسباب إثنية ودينية وجغرافية، فليس هناك شعب عراقي، وإنّما…