سوريا الجديدة: نبوءة لم تتحقّق وسرّان كبيران

مدة القراءة 8 د

منذ الستّينيات تنبأ حنّا بطاطو الأستاذ يومها بالجامعة الأميركية ببيروت أنّ مشكلات داخلية كبرى ستحصل بالعراق لأسباب إثنية ودينية وجغرافية، فليس هناك شعب عراقي، وإنّما هناك مجموعات جُمعت بالقوّة مناطقيّاً ووطنيّاً.

أمّا سورية اعتبر حنّا بطاطو، الماركسيّ في الأصل، أنّ نقطة ضعفها الرئيسية هي الظلم الواقع بفلّاحيها عبر عدّة عهود، في حين تحدث الانقلابات العسكرية للاستيلاء على المدن ذات المستوى الحياتيّ الأفضل، ويُترك الفلاحون وهم كثرةٌ كاثرةٌ لمصيرهم.

ما كان السوسيولوجيّ العراقي المعروف علي الوردي معنيّاً بالطبقات، بل اعتبر الروح العراقية هائمةً بين البدو والحضر. وتوقّع لهذه الجهة مشكلات كبيرة وكثيرة إذا ضعُفت السلطة المركزية.

 

اضطرب العراق واضطربت سورية، وليس بسبب البداوة والحضارة، ولا الفلاحين والمدن. العراق حطّمته ثلاث حروب: الحرب مع إيران، حرب الكويت، والغزو الأميركي عام 2003. لا بدّ أن نعترف أنّ الفئات الشعبية المضغوطة من كلّ ناحية أيّام صدّام وأيّام الأميركيين، وأيّام داعش والحشد الشعبي، ما وجدت سبيلاً للهدوء والتوازن ورعاية العيش المشترك أمام تلك التدخّلات الصاعقة من جانب الجيوش الأميركية والبريطانية، وأمام التدخّلات الإيرانية، وأخيراً أمام هياج وثوران الدواعش، فاشتركت في تحطيم العراق وإظهار هشاشته حروب النظام، انتقامات إيران، غزو الأميركيين، ومذابح المتطرّفين وخصومهم.

منذ عشرين عاماً يحاول الأميركيون مع التركيبة السياسية الجديدة التي أنشؤوها بعد صدّام، أن ينشئوا جيشاً عراقياً جديداً حسبناه صار قوّةً للاستقرار، فإذا به ينهار أمام داعش، ويعتري الجميع الخوف اليوم عندما انكسر نظام الأسد بسورية قبل شهرٍ ونيّف. خلال سنوات الثورة بسورية بعد عام 2011، ما بقيت شرذمة طائفية عراقية أو لبنانية إلّا وتدخّلت للنهب والسلب والتهجير بالبلد الجار، إمّا بحجّة حماية مزارات وأضرحة أهل البيت أو بحجّة نصرة نظام الأسد، وأخيراً بحجّة مكافحة الإرهاب (السنّيّ).

يعتري الجميع الخوف اليوم عندما انكسر نظام الأسد بسورية قبل شهرٍ ونيّف

الخوف العراقيّ

لماذا يخاف النظام العراقي القائم في الحقيقة؟ لأنّ الأكراد بالشمال يساورهم القلق من التنازع مع الجيش ومع الحشد في المناطق الحدودية مع الإقليم. ولأنّ السنّة في سائر المحافظات غير راضين، إذ ما تزال ميليشيات الحشد تسيطر في كثيرٍ من مناطقهم بين الموصل وصلاح الدين والأنبار، كما أنّ عشرات الألوف منهم ما يزالون في السجون إمّا في سياق قانون اجتثاث البعث أو للاتّهام بالإرهاب.

لا ننسى أنّ خمسة ملايين منهم تهجّروا داخل العراق وخارجه. ومن المراقبين من يقول إنّ معظم الدواعش جاؤوا من بقايا عساكر صدّام الذين سرّحهم الأميركيون عندما حلّوا الجيش العراقي الضخم. ولذلك يظلُّ الشيعة العراقيون السائدون خائفين من انهيارٍ جديدٍ في النظام إذا اندفعت جماعات داعشية بعدما تحرّرت من النظام الأسدي. في حين يؤكّد الأميركيون لهم وللأكراد السوريين أنّهم باقون لحمايتهم من الإرهاب.

سورية المختلفة

لنذهب إلى سورية، حيث أصول الحالة هناك مختلفة. قيل إنّ الثورات تبدأ عندما تفقد فئة أو فئات من الشعب الثقة بالنظام. أمّا في سورية فقد حدث العكس! إذ إنّ الحاكم هو الذي فقد ثقته بشعبه. ولذلك زجّ مئات الآلاف في سجون القتل، وضرب الناس بالكيمياوي (2013 و2018)، وبالبراميل المتفجّرة من الطائرات، وهجّر الملايين، وقال بعد ذلك إنّ الشعب السوري صارت عناصره أكثر انسجاماً (أي منذ نقصت الأكثرية السنّية ملايين!).

الأسد

 

في عامَي 2011 و2012 كان يمكن بحركة إصلاحية إيقاف الاضطراب، لكنّ الرئيس لم يفعل. المدينيون هم الذين ثاروا أوّلاً ثمّ الريفيون. وقد تسلّحوا في الأرياف بأسلحة خفيفة. لكن لم يعد هناك أمل بالتغيير ولا بالاستجابة من جانب النظام بعد عام 2013 بسبب تدخّل الحرس الثوري و”الحزب” والميليشيات العراقية المتأيرنة، ثمّ جاء التدخّل الروسي الصاعق.

سقوط الأسد هو عملية أمنيّة كبرى وليست عمليّةً عسكرية. المشكلة أنّ الذين أسقطوه هم المتشدّدون الإسلاميون وليس ثوّار عام 2011

قاطع العرب سورية بعد محاولاتٍ للإصلاح والتوسّط والقرار الدولي 2254. وتتالت إجراءات الحصار الأميركي والأوروبي، فاعتمدت سورية الأسد على المساعدات الإيرانية وعلى العسكر الروسي، ثمّ صار الدخل الرئيسي يأتي من المخدّرات وصناعة الكبتاغون وتصديره عبر لبنان والأردن. وبعد مقتل كبار النظام العسكريين في تفجيرٍ لاجتماع في عام 2012 (يُتّهم به الأسد نفسه الآن)، صار النظام كلّه قائماً على بشّار وشقيقه ماهر قائد الفرقة الرابعة بالجيش وزعيم تجّار الكبتاغون.

لماذا انهار النّظام؟

لماذا انهار النظام على الرغم من أنّه بدا مستقرّاً؟ صارت سورية مقسّمة إلى عدّة أقسامٍ وسلطات يرأس كلّاً منها روس وإيرانيون وأميركيون وأكراد وأتراك. وفي عام 2018 بلغ من جرأة الروس أن جمعوا من حولهم الأتراك والإيرانيين، وشكّلوا مجموعة أستانا لحلّ القضية السورية كما زعموا. وهكذا ما عاد في مجموعة الحلّ والوساطة سوريّ ولا عربي ولا دوليّ.

بعد عام 2020-2021 وقد صار الوضع في سورية لا يطاق، ووصل عدد المهجّرين إلى اثني عشر مليوناً، بدأ العرب يفكّرون كيف يمكن زحزحة المشكلة واستعادة استقرار سورية ووحدتها. وأعاد العرب بعد اجتماعٍ بالرياض سورية إلى الجامعة العربية، وبدأت السفارات العربية تفتح أبوابها بدمشق، وصار المطلوب من سورية فقط وقف صناعة المخدّرات وتصديرها، ووقف تهريب السلاح إلى الأردن، وأن لا تظلّ طريقاً لإمداد “الحزب” بالسلاح من إيران. وكان الأسد يعد ولا يفي، واشتهرت عنه كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز: بشّار يكذب ويكذب ويكذب.

كانت المعارضة السياسية السورية التي أطلقت الثورة قد تفكّكت واستقرّت بالخارج. أمّا المسلّحون فقد انقسموا إلى ثلاث فئات: فئة استقرّت في ظلّ تركيا بالشامل (الجيش الوطني السوري)، وفئة تتكوّن من تنظيمات صغيرة متشدّدة وقعت بين تركيا وإدلب، وفئة من هيئة تحرير الشام وتنظيمات أُخرى استقرّت في إدلب ومحيطها، لكنّ السيطرة لها. لقد اعتبرهم الأميركيون والإيرانيون والروس والنظام طبعاً حركة متشدّدة أصلها في القاعدة. ويبدو أنّ أوّل من فكّر باستخدامها ضدّ نظام بشار كانت المخابرات التركية، بعدما ظلّ إردوغان يدعو بشّاراً للتفاوض دون جدوى.

كانت المعارضة السياسية السورية التي أطلقت الثورة قد تفكّكت واستقرّت بالخارج

فكّر الجولاني بالتحرّك قبل ستّة أشهر، لكنّ المخابرات التركية استمهلته لترى رأي الولايات المتحدة. فلمّا قرّر الأميركيون غضَّ النظر، لأنّ إسرائيل صارت موافِقة على إسقاط الأسد بسبب عجزه عن وقف الإيرانيين في سورية ولبنان، أطلق الأتراك يد الجولاني بعدما أعلموا أصدقاءَهم العرب والروس.

الروس تحدّثوا إلى الأسد مرّتين ثمّ أعلنوا التخلّي عنه. أمّا العرب فلم يصدّقوا وظلّوا على اعتقادهم أنّ الإيرانيين لن يتخلّواعن الأسد لأنّه ضرورة في الحرب الهائلة الدائرة بالمنطقة بين إيران وإسرائيل.

سرّان كبيران

يظلُّ هناك سرّان كبيران:

1- تخلّي الإيرانيين وانسحابهم مع ميليشياتهم جميعاً خلال ثلاثة أيّام بعد سقوط حلب.

2- لماذا لم يقاتل الجيش السوري أم قرّرت قيادته عدم القتال بسبب اليأس وانهيار المعنويّات؟ يبدو أنّ تلك القيادات قرّرت حلَّ الجيش وفي ظنّها أنّ البلاد ستسقط في الفوضى والحرب الأهليّة.

سقوط الأسد هو عملية أمنيّة كبرى وليست عمليّةً عسكرية. المشكلة أنّ الذين أسقطوه هم المتشدّدون الإسلاميون وليس ثوّار عام 2011.

تروح الوفود العربية والدولية إلى سورية وتغدو، وتعود حذرةً متشكّكةً أو آمِلة. وقد فُتحت السفارتان القطرية والتركية بدمشق. وانفرد السعوديون بإطلاق حملة إغاثية كبيرة في الجوّ والبرّ.

إقرأ أيضاً: سورية القويّة وسورية الضعيفة

ما كان الفلاحون السوريون البؤساء هم الذين أسقطوا النظام الأسديّ كما تنبّأ حنّا بطاطو. لقد كانت مبادرة تركيّة نفّذها المتشدّدون بعد تراكم الأزمات وتكاثر الغرباء على أرض سورية خلال أربعة عشر عاماً. الجولاني تحدّث عن حملةٍ لإنقاذ سورية. يكون ذلك صحيحاً أم نكرّر ما قاله الشاعر معروف الرصافي عن العراق في الثلاثينيات الماضية:

من أين يُرجى للعراق تقدّمٌ                    وسبيل ممتلكيه غير سبيله

لا خير في وطن يكون السيف عند           جبانه والمال عند بخيله

والرأي عند طريده والعلم عند        غريبه والحكم عند دخيله.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

التّاجر السّوريّ الجديد في الخليج العربيّ..

بعد وفاة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، اجتمع كلٌّ من الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك بالدكتور بشار الأسد في دمشق، وقال…

إعفوا عن السُّنّة كي يعفوا عنكم

ليست مصادفه أن يكون مطلب سُنَّة العراق اليوم إقرار قانون العفو العامّ متوازياً مع مطلب سُنّة لبنان إقرار قانون العفو العامّ أيضاً لإطلاق سراح الموقوفين…

العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة… مشقّة التاريخ والجغرافيا

لا ينفك لبنان يتحمّل مشقّة الجغرافيا. هي المشقّة لوجوده بين دولتين: إسرائيل التي لا يعترف بها، وسوريا التي لا تعترف به وطناً مستقلّاً، حتى عام…

سوريا تسبق لبنان إلى الحاضنة العربيّة

هل تسبق سوريا لبنان إلى الانضواء تحت الحاضنة العربية في سياق الجهد الدولي العربي لإخراج البلدين من العباءة الإيرانية وعدوانيّة إسرائيل؟ في لبنان ما زالت…