ما استثمرت دولة في نفوذٍ خارج حدودها إلّا ودفعت ثمناً أكبر بكثير ممّا كسبت!
الشواهد على هذه الحقيقة دامغة، ولا مجال للجدل فيها. فقد حدثت مع الدولة العظمى أميركا في أكثر من مكان. والدولة العظمى الاتحاد السوفيتي أيضاً، دون الحاجة إلى سرد مآلات الإمبراطوريات الكبرى التي مرّت على التاريخ وسادت ثمّ بادت.
في زماننا وفي شرقنا الأوسط وفي بلداننا العربية بالذات، مورست لعبة النفوذ خارج الحدود. وهنا أذكّر بنموذج واحد من عدّة نماذج، وهو ليبيا مثلاً. حيث القذّافي دفع معظم ما لدى الدولة الليبية وشعبها من احتياطيات للحصول على لقب ملك ملوك إفريقيا، ورأينا أخيراً ما الذي حدث.
تجربة إيران وروسيا
في هذه الأيّام أمامنا نموذج طازج للاستثمار خارج الحدود، أدّته بكلفة عالية دولتان أو نظامان راودهما حنين إلى بعث النفوذ الامبراطوري خارج الحدود، وهما إيران وروسيا.
إيران دولة غنيّة وجديرة بأن تحظى بوصف الدولة الإقليمية العظمى، وفيها من الإمكانات الذاتية ما يجعلها تحاكي أهمّ دول العالم وتتفوّق. هذه الدولة، منذ نجاح الثورة على نظام حكم الشاه بقيادة الإمام الخميني، تبنّت شعار تصدير الثورة. فدخلت في حربٍ مدمّرة مع جارتها العراق. وعلى الرغم من كلّ ما أُنفق على هذه الحرب، خسرتها في النهاية. وبعد الهزيمة التي ساهمت دول عديدة ومقتدرة فيها لم تستوعب إيران الدرس، وانهمكت في إعداد مكلف لبناء نفوذ إمبراطوري خارج الحدود. فأنتجت ظاهرة الأذرع التي تحوّلت بعد إنفاق أكبر بكثير ممّا تحتاج إليه الدولة للتنمية إلى عبءٍ أثقل كاهل الدولة وقادها إلى معارك وحروبٍ مباشرة وبالواسطة. فوصلت أخيراً إلى ما وصلت إليه الآن. فصدق عليها القول: كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
استغرقت لعبة النفوذ في سوريا سنوات طويلة، ثمّ انهارت في ساعات معدودات. فتحوّلت المليارات التي اقتُطعت من لقمة عيش الإيرانيين إلى هباء منثور.
إيران دولة غنيّة وجديرة بأن تحظى بوصف الدولة الإقليمية العظمى، وفيها من الإمكانات الذاتية ما يجعلها تحاكي أهمّ دول العالم وتتفوّق
ساد في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الأعظمين الشرقي والغربي، وارسو والأطلسي، قولٌ مفاده أنّ قائدة المعسكر الشرقي موسكو تحلم بقواعد ثابتة في ما يسمّى بالمياه الدافئة، أي الشرق الأوسط. لكن لم تتمكّن من تحقيق هذا الحلم في العهد الناصري الذي أقام علاقات تسليحيّة وتنموية واسعة مع موسكو، ولا في أيّ عهد من عهود الجمهوريّات التي كانت تسمّي نفسها حليفة لموسكو.
بوتين يرث الحلم
مرّت سنوات طويلة على حلم لم يتحقّق، وانهار الاتحاد السوفيتي وانهار حلف وارسو وتبدّدت المنظومة الاشتراكية وامتداداتها في كلّ مكان على وجه الأرض، إلا أنّ الحلم ظلّ كامناً إلى أن ورثه الضابط السابق في الـ KGB فلاديمير بوتين عن الأجداد القياصرة الأوّلين والآباء السوفيت. وظنّ أنّ الحلم آخذٌ بالتحقّق حين حصل على قاعدتين عسكريّتين في سوريا، ولم ينتبه إلى أنّه حصل عليهما لقاء مساهمته في تدمير المدن السورية بالبراميل المتفجّرة. وجرّاء تحوّل الحرب عن عنوانها “محاربة الإرهاب” إلى حربٍ شرسة لحماية النظام من ثورة شعبية أوشكت على الإطاحة به.
في سنواته الأخيرة تحوّل الوجود على الشواطئ الدافئة إلى عبءٍ فرض عليه أن يحمل عصاه ويرحل.
هذه نماذج وليست كلّ ما يتّصل بمغامرات وخسارات النفوذ الخارجي، سواء سعت إليه دولٌ عظمى أو دولٌ عاديّة.
إقرأ أيضاً: روسيا ولعبة البيضة والحجر
أخيراً كلّ الدول، ونموذجاها الأوضحان في أيّامنا هذه روسيا وإيران، اللتان وقعتا في الشرك أو أوقعتا نفسيهما، تواجه سؤالاً لا مناصّ من الإجابة عنه: هل الإغراءات، التي كانت واعدة في البدايات وصارت كارثية في المآلات، تستحقّ كلّ هذه الخسارات؟