محمّد بن سلمان: “معيار الذّهب” في سنة اللّهب

مدة القراءة 7 د

يكمل وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عقده الرابع في منتصف 2025. كان في عقد الثلاثينات قوّة تغيير لم تعرف السعودية مثلها منذ جدّه المؤسّس الملك عبدالعزيز آل سعود. لكنّ عقد الأربعينات سيكون فصلاً أكثر صخباً بما لا يُقاس.

أمام السعودية ستّ سنوات لتكمل “رؤية 2030” التي وضعها الأمير الشابّ فور دخوله ديوان الحكم. ولم يُطوَ عام 2024 إلّا وقد أضافت المملكة إلى روزنامتها موعداً آخر في 2034، العام الذي ستستضيف فيه كأس العالم لكرة القدم.

 

 

يحفظ الأمير الشابّ المستقبل عن ظهر قلب. في كلّ سنة من العقد المقبل، موعد لإنجاز شيءٍ ما أو استضافة حدث دولي: كأس آسيا لكرة القدم في 2027، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية عام 2029 في جبال تروجينا بنيوم، ثمّ الحدث الكبير “إكسبو 2030” في الرياض، وبعده دورة الألعاب الآسيوية 2034، ومونديال 2034. ومع كلّ حدثٍ جدول دقيق بالمشاريع العملاقة التي ينبغي إنجازها.

يكمل وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عقده الرابع في منتصف 2025

في آخر العشريّة المزدحمة، سيشكّل المونديال فرصة لتقديم السعودية الجديدة إلى العالم بعد عقدين من التحديث الفائق السرعة. سيكون قد اكتمل وسط العاصمة الجديد “نيو مربّع”، وفي مركزه البرج العملاق “المكعّب”، وتكون قد اكتملت مدينة القديّة، أكبر المدن الترفيهية في العالم، ونيوم في الشمال الأقرب إلى أوروبا، ووجهة العلا السياحية الأثرية، ووجهة البحر الأحمر التي تتوسّط نيوم وجدّة، وجدّة نفسها بوسطها التاريخي، و”قمم السودة” في عسير بجبالها المرتفعة وطبيعتها الخضراء.

رؤية 2030 حقيقة واقعة

ما تغيّر في السنوات القليلة الماضية أنّ العالم بات يتعامل مع “رؤية 2030” كحقيقة واقعة. بات قادة الدول والمستثمرون الدوليون يعرفون شخصية الأمير جيّداً. إنّه متطلّبٌ وصارم جداً، آتٍ من خلفيّة أكاديمية منضبطة، جعلته واحداً من العشر الأوائل في اختبارات الثانوية العامة والثاني على دفعته في كلّية القانون والعلوم السياسية. وهو في حياته العملية لا يختلف كثيراً.

لا شيء يسير من دون دراسة واستراتيجيات وأهداف محدّدة ومؤشّرات لقياس الأداء. لا يضع الاستراتيجيات إلا لتنفّذ. لكنّه يحبّ الاختصار ويطلب المفيد. معظم خطاباته لا تزيد على ثلاث أو أربع دقائق، ومن اللطائف أنّه رأس أقصر قمّة عربية على الإطلاق في أيار 2023 لأنّه طلب من كلّ القادة الالتزام بحدّ أقصى لكلماتهم لا يتجاوز خمس دقائق.

في آخر العشريّة المزدحمة، سيشكّل المونديال فرصة لتقديم السعودية الجديدة إلى العالم بعد عقدين من التحديث الفائق السرعة

من الواضح أنّ شخصيّته القيادية أحدثت فرقاً. فالمشاريع تنفّذ على الأرض، والأرقام المحقّقة تسبق المستهدفات. فعلى سبيل المثال، فتحت 540 شركة دولية مقرّاتٍ إقليمية في السعودية، وهو رقم يفوق ما كانت الرياض تطمح للوصول إليه بحلول عام 2030. وتجاوزت أعداد السيّاح في 2023 الرقم الذي كان مستهدفاً لعام 2030، وهو 100 مليون سائح، من بينهم 27 مليون سائح دوليّ. ودفع ذلك المملكة إلى وضع أهداف جديدة أعلى طموحاً للسنوات المقبلة.

السعودية العظمى… وسط محيط مشتعل

غيّرت السنوات الثماني الماضية الكثير في نظرة السعودية إلى نفسها ونظرة العالم إليها. بات فيها جيل من الشباب الذي لا يرى أمامه إلّا الهدف الذي وضعه له محمد بن سلمان لبناء “السعودية العظمى”. غير أنّ خارطة اللهب في المنطقة تطرح تحدّياً لإبقاء التنمية في مسارها وسط محيط مشتعل.

أحاطت خريطة اللهب بالمنطقة في 2024 من كلّ جانب، من حرب الإبادة في فلسطين إلى النيران في قلب إسرائيل، إلى الحرب الطاحنة في لبنان، إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، إلى الهجمات والهجمات المضادّة في إيران واليمن والعراق، إلى الحرب الأهلية في السودان. وفي جغرافيا لا تبعد كثيراً، ما زالت الحرب قائمة في أوكرانيا.

لم يكن ممكناً للسعودية، وهي مركز الجاذبية للعالمَين العربي والإسلامي، أن تواصل انشغالها بقصّة رؤيتها التنموية، مع النأي بنفسها عن لهيب المنطقة

لم يكن ممكناً للسعودية، وهي مركز الجاذبية للعالمَين العربي والإسلامي، أن تواصل انشغالها بقصّة رؤيتها التنموية، مع النأي بنفسها عن لهيب المنطقة. ولذلك أرست نهجاً في الدبلوماسية جعل منها محور الحلّ من دون أن تكون مسرح الصراع، ومركز الثقل الهادئ لإدارة التحوّلات.

جعل محمد بن سلمان من بلاده في السنوات الماضية ما يشبه “معيار الذهب” في الإقليم، وهو تعبير يطلق مجازاً في عالم المال على كلّ الأصول التي تشكّل الملاذ للمستثمرين في حالات القلق.

سلكت السعودية منذ عام 2016 مسلكاً جديداً في الإمساك بخيوط القوّة الاقتصادية الناعمة على الساحة الدولية، مستندةً إلى اقتصادٍ صاعد نما بنحو 70% منذ إطلاق رؤية 2030، وتجاوز ناتجه السنوي 1.1 تريليون دولار. فشبكت مع الصين مصالح دقيقة تتجاوز أمن إمدادات الطاقة إلى الشراكة في مجالات لوجستية وصناعية وتجارية ذات بعد استراتيجي. ووفّرت لروسيا نافذة للشراكة في إدارة سوق النفط العالمية من خلال تحالف “أوبك بلاس”، فيما كانت علاقاتها الاستثمارية تتعمّق مع أكبر بيوت الاستثمار والتمويل في الولايات المتحدة، فأصبح أباطرة وول ستريت ضيوفاً دائمين على الرياض في منتداها السنوي “مبادرة مستقبل الاستثمار”.

سلكت السعودية منذ عام 2016 مسلكاً جديداً في الإمساك بخيوط القوّة الاقتصادية الناعمة على الساحة الدولية

علاقات هادئة مع الاقليم

في المستوى الإقليمي، تستند السعودية إلى التحالف الأساسي مع الإمارات ومصر، الذي يشكّل ركيزة التوازن في المنطقة، فيما حسّنت بشكل دؤوب علاقاتها مع القوى الإقليمية الأخرى: العراق وتركيا وإيران، وطوت انخراطها المباشر في حرب اليمن، قبل أن تتحوّل إلى استنزاف لمواردها.

أتاحت هذه المعايرة الاقتصادية – السياسية للأمير محمد بن سلمان الإمساك بمركز الثقل الأساسي في الإقليم. تدرك إسرائيل أنّ ليس بإمكانها أن تصبح دولة مقبولة في المنطقة من دون تطبيع علاقاتها مع السعودية. وأدركت إيران أخيراً، بعد الضربات التي تلقّتها أذرعها، أنّ التعاون مع السعودية هو أفضل مسارٍ متاح لديها لإعادة إدخالها المنطقة من بابٍ مختلفٍ بعد عقدين من الحروب. هذا على الأقلّ ما عكسه نائب الرئيس الإيراني في مقاله بمجلّة “ذا إيكونوميست” الأسبوع الماضي.

استخدمت السعودية هذا الثقل لترسم خطّ دفاع عن “حلّ الدولتين” للصراع العربي الإسرائيلي، من خلال الإعلان المباشر أن لا تطبيع بلا دولة فلسطينية، وتحريك ماكينتها الدبلوماسية لتشجيع عدد من الدول على الاعتراف بدولة فلسطين. وأحاطت ذلك بتحرّك دولي واسع تمثّل بالدعوة إلى قمّتين استثنائيّتين للدول العربية والإسلامية في تشرين الثاني 2023 والشهر نفسه من 2024، وإطلاق “التحالف الدولي لتنفيذ حلّ الدولتين” بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي والنرويج، واستضافة اجتماعه الأوّل في الرياض.

إقرأ أيضاً: تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

في المقابل، وفّرت السعودية أرضيّة مهيّأة لاستقبال إيران إذا ما قرّرت العودة إلى التعاون الإقليمي، بعد عقود من التدخّلات والنزاعات، فأدانت الهجمات الإسرائيلية عليها، وطالبت بإلزام إسرائيل باحترام سيادة إيران “الشقيقة” وعدم الاعتداء على أراضيها.

أتى الحدث السوري أخيراً ليفرض على الجميع تحدّياً آخر. تلقّت إيران الضربة الكبرى بخسارة واحدة من العواصم العربية التي تتباهى بالسيطرة عليها، وبقطع طريق إمداداتها إلى “الحزب” في لبنان. وبات عليها أن تختار بين أن تعمل على إثارة الفوضى أو انتهاج سلوك إقليمي مختلف.

جعل محمد بن سلمان من الرياض ممرّاً إلزامياً للحلول الكبرى، لكنّها تنتظر أن يتعب المتحاربون.

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

ترامب جديد… وشرق أوسط أجدّ

ليس دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض، هو الرجل الذي عرفناه بين 2016 و2020، ولا الشرق الأوسط هو الإقليم الذي عرفه الرجل خلال رئاسته… هنا…

بري “شمعون الشيعة”: 40 عاماً نبيهاً!

قيل إنّ لقاءهما الأوّل، كان في 31 تشرين الأوّل 1983 في جنيف. خارج قاعة مؤتمر حوارنا الوطني الشهير، التقى النمر الشمعونيّ العتيق بالزعيم “الأمليّ” الشابّ….

لبنان وزلازل المنطقة وتردّداتها…

عدوّان للبنان، شطبتهما أحداث هذه السنة. وهي سنة كلّ الزلازل وكلّ الارتدادات التي تسبّبت بها هذه الزلازل. العدوّان هما النظام السوري، الذي سعى منذ ما…

تحدّيات سوريا ما بعد الأسد

لطالما شكّلت الدراما التلفزيونية السورية قوّة شعبية مؤثّرة في المنطقة العربية، وخاصة المسلسلات التاريخية التي تلقى صدى عميقاً لدى الجماهير. إلا أنّ هذه المسلسلات توقّفت…