لا يمكن إلّا تخيّل السعادة التي تغمر وليد بيك بسقوط نظام الأسد. وربّما أراد في يوم ذلك السقوط في 8 كانون الأوّل الجاري أن يحجّ إلى دمشق ملاقياً فرحة السوريين. للرجل ثأر شخصي مع نظام حافظ الأسد الذي قتل والده، وله ثأر سياسي مع نظام بشّار الأسد، فعارضه وخاصمه وعاداه، وعبّر كلّ لحظة عن احتقاره له ولبطانته في سوريا، كما في لبنان. لم ينتظر الزعيم اللبناني اكتمال الشروط، وتوافر كامل الظروف، لقيادة “عراضة” لبنانية صوب دمشق قام بها معلناً دعم العهد الجديد في سوريا مبشّراً بتداعياته المباشرة على لبنان.
ذهب وليد جنبلاط على رأس وفد درزي، سياسي ديني. للرجل مكانته لدى دروز العالم، ولدى دروز سوريا خصوصاً. لم يتحدّث إلّا بصفته لبنانياً عربياً يحمل كثيراً من كلمات التهنئة والسرور. لم يحمل في خطوته همّاً درزياً يتجاوز خطاب دروز سوريا، أولاد البلد، الشركاء في صناعة الانتصار الجديد. حين كان في إدلب، سمع أحمد الشرع، رجل سوريا القويّ، صدى أصواتٍ تصدح من السويداء خلال العامين الماضيين. يعرف ويقرّ أنّ أجداداً له قاتلوا في صفوف سلطان باشا الأطرش دفاعاً عن سوريا. خاطب جنبلاط الشرع بلسان قادم من “جبل كمال جنبلاط”، من ذلك اللبنان الذي لطالما كان جزءاً من معاناة السوريين من جور نظام سطا على سوريا لأكثر من 5 عقود.
في 14 آذار 2005 أطلق جنبلاط جامّ غضبه على زعيم النظام السوري الساقط، بشار الأسد. استخدم أقسى الأوصاف التي عجزت عن التعبير عن غضب لبنان من اغتيال صديقه رفيق الحريري. بدا أنّ موقفه متقدّم، مفرط في جرأته. هتفت مليونيّة ساحة شهداء وسط بيروت مصفّقة لكلّ كلمة صدح صداها في سماء العاصمة. كثيرون خافوا على زعيم الجبل وتهيّبوا مصيراً يشبه مصير والده على يد القاتل نفسه.
حمل جنبلاط إلى دمشق تمنّيات على شكل “مذكّرة” تحدّد ما يصبو إليه لبنان في علاقته مع سوريا
لبنان يلاقي سوريا
يلاقي لبنان مصير سوريا. تقاسم البلدان سواد خمسة عقود. يذهب جنبلاط قبل غيره. لطالما تسلّى المحلّلون في التقاط ما تلتقطه “أنتنات” البيك. لا بدّ أنّه لاحظ هرولة أوروبية تطرق أبواب دمشق وتفتح سفاراتها في المدينة وتعبّر من عاصمة الاتّحاد في بروكسل عن عزم، على مستوى زعماء الدول الـ27، على مدّ يد العون والدعم والتعاون مع الوضع السوري الجديد. لم ينتظر جنبلاط قرار واشنطن إرسال وفدها الدبلوماسي الرفيع المستوى للقاء الشرع في قصره. كان قد تواصل مع الرجل قبل ذلك، وتوافقا على “لقاء الأحد”.
ليس تفصيلاً أن يظهر أحمد الشرع مرتدياً سترة رسمية وربطة عنق لأوّل مرّة، احتفاءً بضيفه ووفده القادمين من لبنان. في رمزية المشهد ما يكشف احتفاء سوريا باللحظة اللبنانية. بدا أنّ زعيم سوريا الجديدة يقطع عهوداً مع لبنان نتمنّاه جميعاً جديداً. خرج لبنان “نظريّاً” من زمن الوصاية السورية حين سحبت دمشق جيشها من البلد عام 2005. كان هول جريمة اغتيال الحريري قد فجّر غضباً خارقاً للقارّات أجبر النظام السابق على سحب نفوذه ووصايته. أبقت دمشق لها واجهات وأتباعاً، ودخل بعدها لبنان عصر وصاية جديدة مصدرها طهران، متناسلة من مواهب النظام السابق في دمشق.
كان على الشرع بنفسه إنهاء الوصاية المشؤومة على لبنان، فأطلق مواقف تشبه القسم: “لن تكون سوريا حالة تدخّل سلبيّ في لبنان على الإطلاق وستكون سنداً”، “سنكون على مسافة واحدة من الجميع” على الرغم ممّا فعله بعض هذا الجميع. “ستحترم سيادة لبنان واستقراره الأمني”، متمنياً “أن تُمحى الذاكرة السوريّة السابقة من أذهان اللبنانيين”.
إيران و”الحزب” غير مسرورين
في لبنان من لم تسرّه زيارة جنبلاط واحتفاؤه مع السوريين بانتصار ثورتهم. سمعوا من الشرع خططاً لحلّ الفصائل وتوحيد السلاح وجعله بيد الدولة وحدها. بدعة لا يحبّها “الحزب” ولا تأنس لها “عقائد” فاخرت بقتل الدولة في أربع عواصم عربية.
يتحفّظ الشرع في الحديث عن عواصم الدنيا، بما فيها موسكو، لكنّه لا يتحفّظ في الحديث عن طهران وتوابعها في المنطقة
قبل أيام كان الأمين العامّ لـ”الحزب”، الشيخ نعيم قاسم، يعترف بأنّه فقد سوريا ممرّاً للسلاح والمدد لحزبه. لكنّ “الحزب” وإيران من ورائه فقدا أيضاً سوريا مقرّاً، وبدا أنّ في الأمر نكبة استراتيجية تنهي أعياد ولاية الفقيه في كلّ المنطقة.
يتحفّظ الشرع في الحديث عن عواصم الدنيا، بما فيها موسكو، لكنّه لا يتحفّظ في الحديث عن طهران وتوابعها في المنطقة. يراقب “الحزب” التحوّل السوري بذهول وخيبة. حين كان جنبلاط يتبادل الكلام مع الزعيم السوري الجديد، كان المرشد الإيراني، علي خامنئي، يهدّد انتصار الثوريّين بظهور “فئة شريفة وقويّة”، ولا شكّ أنّ في لبنان فئة تعتبر نفسها معنيّة بنبوءة الوليّ ودعوته.
حمل جنبلاط إلى دمشق تمنّيات على شكل “مذكّرة” تحدّد ما يصبو إليه لبنان في علاقته مع سوريا: علاقات سويّة ندّية طبيعية، ترسيم حدودي نهائيّ يحدّد في ما يحدّد مصير مزارع شبعا الشهيرة، علاقات مصالح وودّ واحترام تلغي الاتفاقات المجحفة و”المجلس الأعلى” الذي يعود لزمن قد ولّى، إغلاق المعابر غير الشرعية وإعادة كريمة للّاجئين السوريين.. إلخ.
إقرأ أيضاً: الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات
قد لا تكون بنود المذكّرة بعيدة عمّا يصبو إليه السوريون الجدد في ترتيب علاقاتهم مع العالم البعيد، فما بالك بذلك القريب جدّاً. غير أنّ وفد لبنان في دمشق وقد استنتج جلاء نظام الأسد إلى الأبد لا بدّ أنّه لاحظ أنّ الجلاء لم يشمل لبنان، وأنّ في البلد عبق زمن قديم لم يرحل، ويتمنّى البعض بعثه من جديد في دمشق، وقد بات رميماً في سوريا.
لمتابعة الكاتب على X: