طفل سورية الخارج من الكهف

مدة القراءة 4 د

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها

ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار  والأطفال والعيون والأثداء والضفائر المعطّرة

كلّ الميادين هنا تحمل اسم عنترة        عنترة يقيم في ثيابنا، في ربطة الخبز

وفي زجاجات الكولا وفي أحلامنا المحتضرة”

(نزار قبّاني)

 

لست ممّن يستلّون السكّين عند وقوع البقرة، وأنا من المقتنعين بأنّ الضرب بالميت حرام، فقوّة الموقف هي بقول كلمة حقّ في وجه ظالم وهو في عزّ جبروته. أمّا الملتحقون والمتخلّفون أو ناقلو البارودة من جهة إلى أخرى فلا يتعدّى موقفهم غير إضافة كلمة نفاق فوق الجبن أو الانتهازية.

ليس مطلوباً من كلّ الناس أن يكونوا شهداء في وجه الظالم، فطبع معظم الناس هو الحفاظ على الرأس حتى يأخذ الزمن مداه ليروا جثّة عدوّهم طافية في النهر. لكنّ الساكتين في زمن الشدّة يجب ألّا يشاركوا في رفع السكّين على جثّة نافقة.

لكنّ أسوأ نوع من المنافقين هم الانتهازيون الذين بنوا مجدهم في زمن الظالم واستظلّوا تحت عباءته وتغاضوا عن سفالته، بل لم يتوانوا عن نظم القصائد والمدائح، وضمّنوها صفات لم تخطر أبداً على بال الظالم ذاته. هؤلاء مشاركون في الجرم ذاته الذي ارتكبه الطاغية. ليس لأنّهم ساكتون على الظلم فقط، بل لأنّهم شجّعوا الطاغية التافه على المزيد حتى يستدرج المنافقين ليمدحوه من جديد. حلقة مفرغة من النفاق تأخذ العزّة الزائفة الطاغية إلى المزيد من الإثم.

ليس مطلوباً من كلّ الناس أن يكونوا شهداء في وجه الظالم، فطبع معظم الناس هو الحفاظ على الرأس

تملّص روسيا وإيران من الأسد

ما لنا ولكلّ ما سبق، لكنّ منظر المتنكّرين لنظام الموت في سورية من أقرب الحلفاء الإقليميين والدوليين يجب أن يكون درساً لكلّ من استظلّ تحت قوى خارجية ليقمع الناس ويرهبهم، فيخدم مصالح الآخرين ليبقى متسلّطاً. اليوم، وبسرعة مذهلة، تملّصت روسيا وإيران وتنكّرتا لتابعها، بل كغيرهما من صغار كتبة ومخبري نظام الموت، تركتاه جثّةً نافقة على حافة الطريق. كلّهم قالوا إنّهم نصحوا الجزّار ابن الجزّار بأن يستمع لضحاياه، أي كلّ الناس. كلّهم قالوا إنّهم لم يعرفوا أبداً بما يحدث في مسالخ النظام المنتشرة على امتداد سورية التي فقدت اسمها وصارت تعرف بكنية الجزّار. وكلّهم نصحوه، حسب أقاويلهم، بأن يمنح رعاياه بعض النفس. لكنّهم كلّهم منافقون لأنّهم كانوا يعلمون. بل كانوا بأفعالهم يشجّعون الجزّار التافه على المزيد من التوحّش، ليس من أجل بقائه، بل ليضمن مصالحهم بوجوده الطفيليّ على أجساد ضحاياه.

منذ سنوات سمعت وقرأت ميشال كيلو وهو يصف سورية بالطفل الذي ولد في السجن ولم يعرف معنى النور أو العصفور أو الشجرة، ولم يتنفّس إلا رائحة الموت والعرق المخمّر والقهر والاستسلام.

سورية

الطفل… هو سوريا

منذ أيّام، شاهدت هذا الطفل بأمّ العين منذ أيّام واقفاً في باب الزنزانة التي ولد فيها. كان يشاهد ما يحدث حوله من دون معالم ولا مشاعر يعبّر عنها. لم تكن تحتضنه أمّه، ولم يكن والده الذي لم يعرفه يحميه بجسده… كان وحيداً ومتروكاً في السجن، والعالم بأكمله منشغل عنه يحصي الموتى بشكل حيادي ليصبحوا أرقاماً في أرشيف الحرب، وتصوّر الأقمار الصناعية أطلال المنازل والقرى والمدن، وتصدر تقارير عن الأمم المتحدة عن أعداد اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا.

سورية السجن الكبير كانت لا تسجن أطفالها فحسب، بل كانت مصدر قلق للجيران والإخوان. ضمّها إلى الصدور ومساعدتها ليسا عمل خير لوجه الله

كان الطفل قد ولد خارج الزمن. فالعالم كان يدور في كوكب آخر غير عالم السجن. هذا الطفل هو سورية اليوم التي تحتاج إلى أهل يحضنونها ويمسكون بيدها وهي تخرج إلى النور لأوّل مرّة. هي مثل حيّ بن يقظان في رواية ابن الطفيل، تحتاج إلى استكشاف الأشياء من حولها لتفهمها. وهو مثل الهارب من قيوده في كهف أفلاطون، حيث كان يرى فقط انعكاس الأشياء على حائط سجنه كصور مشوّشة يتصوّرها عن العالم.

هذا الطفل الهارب من الكهف سيعميه نور الشمس في البداية. وقد يرى الأشياء مشوّشة وغريبة، وقد يلجأ إلى أمان الكهف حيث الأمور معروفة وبديهيّة، وحيث النور لا يعمي البصر. لكنّ وجود الأيدي الراعية، خاصّة من الإخوة الذين لم يعرفهم ولم يعرفوه من قبل، سيعطي الفرصة للطفل لكي يعتاد نور الشمس.

إقرأ أيضاً: فرحة دمشق تبحث عن شمس العرب

سورية السجن الكبير كانت لا تسجن أطفالها فحسب، بل كانت مصدر قلق للجيران والإخوان. ضمّها إلى الصدور ومساعدتها ليسا عمل خير لوجه الله… بل هما مصلحة لكلّ المحيط لتعود محطّة وصل وازدهار، بدل كونها عائقاً مزعجاً ومرضاً لا براءة منه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…