سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

مدة القراءة 9 د

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”.

ـ مرّتين قبل الاستحقاق الحالي وقف حسن نصرالله في طريق انتخاب سليمان فرنجية.

 

 

أعاد رئيس تيار المردة سليمان فرنجية تأكيد استمرار ترشّحه للانتخابات الرئاسية، مع فسحة طارئة أكثر من أيّ وقت، مفادها أنّه مستعدّ ضمناً للتنحّي لمَن يطابق مواصفات طرحها للرئاسة، دونما أن يُسمّي من يُجيِّر إليه ترشيحه. وممّا قاله، تمسّكه بعلاقته بحلفائه، والمقصود بهم الثنائي الشيعي، وإن تمايز عنهم بمَن يفضّله، ما لم يكن هو، للرئاسة. المفارقة أنّ “الحزب” حليفه هو الذي أفقده، لأسباب مختلفة، فرصته مرّتين، وتوشك الثالثة أن تكون.

 

ليست مواصفات البيت والزعامة وحدها ما ورثه سليمان فرنجيه. غالباً ما دقّ الحظّ العاثر في انتخابات الرئاسة أبواب العائلة:

  • شقيق جدّه حميد فرنجية كان محسوباً أنّه الرئيس الخَلَف في 23 أيلول 1952، خمسة أيام بعد استقالة بشارة الخوري. بيد أنّ تحكيم الساعات القليلة عشيّة موعد الجلسة بينه وبين كميل شمعون، في بيت يوسف سالم، حمله على التخلّي عن ترشّحه لمنافسه بعدما أحصى كلٌّ منهما أصوات مؤيّديه. كان ذاك أوّل الحظّ العاثر الذي حال مجدّداً عام 1958 دون وصوله إلى الرئاسة بعدما أقعده المرض لسنة خلت.
  • الحظّ العاثر رافق أيضاً سليمان فرنجية شقيق حميد، وإن بانتخابه رئيساً عام 1970 بفارق صوت واحد. عُدَّ الفوز ظاهراً انتصاراً للديمقراطية فيما أفصح عن وطأة انقسام مجلس النواب بين كتلتين كبريين انعكاساً لانقسام وطني لم يتأخّر كي ينفجر في منتصف الولاية. نعمة الصوت الواحد أضحت نقمة شخصية لاحقت الرئيس الفائز. كلّ مَن اختلف معه، وأبرزهم ريمون إدّه وصائب سلام وكمال جنبلاط، منّنه بالقول له إنّه صار كذلك بفضل صوته. كلّ نائب في برلمان 1968 زعم الفضل وعزاه إليه، فيما دافع سليمان فرنجية عن نفسه بأنّه فاز بصوته هو.
  • في خضمّ الحرب الأهلية في السنة الأخيرة من العهد عام 1976 تكرّست سابقة تقصير ولاية رئيس الجمهورية قبل أوانها بستّة أشهر، كي تحضر البلاد وجود رئيسيْن في المدّة تلك. لا الأوّل قادر على الحكم، ولا الثاني باشره.
  • المرّة الرابعة في الحظّ العاثر إخفاقه في العودة إلى الرئاسة في 18 آب 1988. مرشّح سوريا وقف ضدّه ورئيس الجمهورية وقائد الجيش وميليشيا القوات اللبنانية ومنعوا انتخابه بالقوّة.

ام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”

أمّا لعنة الحظّ العاثر فلحقت بسليمان فرنجية الحفيد. ثلاث مرّات، بتعبير لميشال إدّه، مرّت الرئاسة من “تحت المنخار” عامَيْ 2004 و2015 وصولاً إلى الاستحقاق الحالي بعدما جهر رئيس تيّار المردة مساء الأربعاء بتقلّص حظوظه ثلاثة أسابيع قبل جلسة 9 كانون الثاني 2025.

كلٌّ منها تستحقّ أن تُروى.

نصرالله في الشّام يعترض على رئاسة فرنجيّة

يروي كتاب “جان عبيد، فوق الخطوط الحمر”، وهو السيرة السياسية للنائب والوزير الراحل الذي يصدر في شباط المقبل، ملابسات ترشيح سليمان فرنجية لخلافة إميل لحود المنتهية ولايته في 23 تشرين الثاني 2004.

لستّة أشهر خلت، في أيار، في خلال زيارة شخصية له لدمشق، دورية من حين الى آخر بعيداً من الأضواء بحكم صداقتهما الوطيدة، سمع سليمان فرنجية بشار الأسد يسأله: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”.

ردّ بالنفي.

قال: “إذاً استعدّ لرئاسة الجمهورية”.

كان ذلك التعهّد الوحيد الذي قطعه سرّاً الرئيس السوري لصديقه اللبناني وكتماه في انتظار الكشف عنه في الوقت المناسب. لم تنقضِ أيّام حتى أرسل بشار الأسد في طلب الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله لمقابلته في دمشق، يُخطره بقرار دعم انتخاب سليمان فرنجية. ردُّ فعل الزائر أن تحفّظ متمنّياً عليه التريّث. وجهة نظره أنّ المرحلة المقبلة صعبة لا تحتمل المجازفة، مفضّلاً بقاء إميل لحود في منصبه، دون أن يُخفي عن الرئيس السوري أنّ تقارير وصلت إليه أثارت لديه شكوكاً في علاقة خاصّة تجمع سليمان فرنجية برفيق الحريري.

مرّتين قبل الاستحقاق الحالي وقف حسن نصرالله في طريق انتخاب سليمان فرنجية

في 17 آب دُعي سليمان فرنجية إلى دمشق كي يتبلّغ من صديقه الرئيس السوري خشيته من العواصف المقبلة عليه من جرّاء ضغوط الدولتين الكبريين (الولايات المتحدة وفرنسا وهما تتحضّران لإخراج الجيش السوري من لبنان). أوّل مَن تبلّغ قرار انتخابه رئيساً سيكون أوّل مَن يأخذ علماً بالخيار المعاكس.

في لِقائهما صارحه بشار الأسد بِتعذّر إيفائه بوعده له: “الوقت لم يعد مناسباً كما اتّفقنا قبلاً. أنا محشور للغاية. الحملات الأميركية والفرنسية لا تتوقّف. كنت عازماً على إعادة نشر قوّاتي في البقاع. الآن أنا في صدد الانسحاب من لبنان كلّه. المواجهة مفتوحة على سوريا والمقاومة ويقتضي الاستعداد لها. الرياح الآتية إليّ تحتاج إلى قوّة احتمال. لا حلّ عندي سوى التمديد لإميل لحود”.

ردّ: “خبر مفرح أن تُبلّغني القرار في 17 آب، ذكرى انتخاب جدّي رئيساً للجمهورية”.

شرح الرئيس السوري مجدّداً وطأة ما يتعرّض له من هجمات ضارية يصعب صدّها بسهولة إلا بردّ موازٍ عبر بقاء إميل لحود في رئاسة الجمهورية.

قال سليمان فرنجية: “لا مصلحة للبنان بالتمديد. إذا كان لمصلحة سوريا فأنا معك”.

انتهى المطاف آنذاك بالتمديد للرئيس الحالي في 3 أيلول 2004 استجابة لرغبة الأمين العامّ لـ”الحزب”. بعد سنوات طويلة، عام 2022، على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية، كاشَفَ السيّد حسن نصرالله سليمان فرنجية أنّه وقف في طريق وصوله إلى رئاسة الجمهورية مرّتين، مُطلعاً إيّاه على ما أفضى به لبشار الأسد عام 2004 متأثّراً بتقارير الأجهزة الأمنية الرسمية اللبنانية له عن علاقة وثيقة ملتبسة برفيق الحريري، جانب منها ماليّ.

لعنة الحظّ العاثر فلحقت بسليمان فرنجية الحفيد. ثلاث مرّات، بتعبير لميشال إدّه، مرّت الرئاسة من “تحت المنخار”

نصرالله يرفض فرنجيّة مجدّداً

ثانية مرّات الحظّ العاثر جاءت على أثر إبرام سليمان فرنجية وسعد الحريري في باريس مساء 17 تشرين الثاني 2015 في منزل الرئيس السابق للحكومة ثمّ في اجتماع ثان في اليوم التالي، تسوية توصل الأوّل إلى قصر بعبدا والثاني إلى السراي. كانت المرّة الأولى التي يلتقيان فيها منذ تداعيات اغتيال رفيق الحريري عام 2005. دُوِّن التفاهم في محضر في مرحلة شغور رئاسي منذ انتهاء ولاية ميشال سليمان قبل ستّة أشهر، ودوران الاستحقاق الرئاسي في جدل عبثي من حول مرشّح وحيد يدعمه “الحزب” ويتمسّك به هو ميشال عون: مَن يريده ومَن لا يريده، على نحو ما سيخبره سليمان فرنجيه بنفسه بعد ثماني سنوات.

بعد عودته من باريس إلى بيروت، أطلع سليمان فرنجية عبر أحد موفديه “الحزب” على المحضر قبل أن يطلب مقابلة الأمين العامّ. في اجتماعهما في حضور معاونَيهما أفصح الزعيم الزغرتاوي عن فرصته بالفوز (76 صوتاً بلا التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) في ضوء تفاهمه مع سعد الحريري.

قال له السيّد حسن نصرالله: “لستُ ضدّك وأنا مقتنع وواثق بك. قطعتُ وعداً لميشال عون بالوقوف إلى جانبه في انتخابات الرئاسة وسأتصرّف على هذا الأساس؟ تالياً لا يمكنني المشاركة في جلسة تنتخب سواه. إن لم يُرِد ميشال عون الرئاسة أكون في حلّ من وعدي له. إذا ظلّ محاصراً بمعارضي انتخابه قد يقرّر سحب ترشيحه، وقد يقبل بك. إذا حصلت مناسبة بينكما فاتحه في الأمر”.

سأل سليمان فرنجية: “إلى متى سيظلّ ينتظر؟”.

لم يسَع الأمين العامّ تحديد مهلة ما، بيد أنّه قدّم جواباً يحمل المخرج: “يقتضي أن تتحدّثا معاً”.

اتّفقت وفاة روبير عون شقيق رئيس تكتّل التغيير والإصلاح في 30 تشرين الثاني 2015. ذهب سليمان فرنجية إلى تعزيته في الكنيسة. بعدما عزّاه رغب إليه في الاجتماع به، فاتّفقا أن يلتقيا عند الحادية عشرة من قبل الظهر في الرابية. في لقائهما شرح لميشال عون إمكان نجاح انتخابه رئيساً بعد دعم سعد الحريري، كاشفاً له عن مداولات اجتماعه بالسيّد حسن نصرالله.

قال له: “أنا معك. لكن في حال تعثّر ظرف انتخابك هل تتنحّى لي؟”.

ردّ: “سأبقى مرشّحاً. أقول لك إنّك شابّ من حقّه أن يحلم ويكون لديه طموح. هذا حقّك ولا أعاتبك على طموحك. أطلب منك أن تظلّ مرشّحاً. إلّا أنّني سأبقى مرشّحاً”.

سأله: “هل لديكplan B ؟”.

ردّ: ” “plan Bيعني أنّني رشّحتك وضمنت لك فوزك. يعني ذلك أنّ معارضيَّ سيذهبون إليك. ليس عندي سوى plan A”.

انتهت المقابلة عند هذا الحدّ إيذاناً بقطيعة الرجلين.

مذ شغرت الرئاسة بانتهاء ولاية ميشال عون، غدا طبيعياً ظهور سليمان فرنجية مرشّحاً. تمسّك به الثنائي الشيعي دون أن يفصحا

الفرصة الثّالثة: “الحزب” مجدّداً

مذ شغرت الرئاسة بانتهاء ولاية ميشال عون، غدا طبيعياً ظهور سليمان فرنجية مرشّحاً. تمسّك به الثنائي الشيعي دون أن يفصحا إلى أن قال نبيه برّي في 2 آذار 2023 إنّه “مرشّحنا”.

بين الجلسة الأولى للانتخاب في 29 أيلول 2022 والجلسة الحادية عشرة في 19 كانون الثاني 2023، لم يرد اسمه في دورات الاقتراع سوى مرّة واحدة في جلسة 17 تشرين الثاني 2022، حتى الوصول إلى جلسة 14 حزيران 2023، اقترع له الثنائي الشيعي وحلفاؤه على نحو غير مباشر بورقة بيضاء ترجّحت على مرّ الجلسات بين رقم أعلى هو 63 صوتاً ورقم أدنى هو 36 صوتاً ولم تكن تخفي هويّة المقصود بها.

لم يشأ الثنائي استعجال ترشيحه قبل أن يبادر هو بنفسه. أضحى بعد ذاك مرشّحاً جدّياً معلناً في الجلسة الأخيرة بنيله 51 صوتاً فيما حاز منافسه جهاد أزعور 59 صوتاً. حجّة “الحزب” في تأييده أنّه “يحمي ظهر المقاومة”. حجّته هو أنّه قادر على محاورة سوريا لإعادة النازحين، و”الحزب” لمناقشة مصير سلاحه. ذلك ما أعاق انتخاب الرئيس ودورانه من حول مرشّح يدعمه الثنائي الشيعي وترفضه الكتلتان المسيحيتان الكبريان وسط تفرّج وتريّث درزيَّين وسنّيَّين.

إقرأ أيضاً: فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

ربّما يُستشمّ من مغزى قول سليمان فرنجية مساء الأربعاء إنّ حظوظه في الرئاسة تقلّصت، تهاوي حجّتَي ترشّحه: لا بشار الأسد موجوداً بعد الآن ولا سلاح “الحزب”.

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…

تذكّروا كلام الوزير قبل 40 يوماً!

في حمأة الحديث عن تطوّرات لبنان وسوريا، بعد “تخييم” مستعمِرين في مارون الراس، وتوغّل الإسرائيليين في الجنوب السوري، حتى ملامسة مطار دمشق بالنار… وفي زحمة…