لجرحنا الغائر في سوريا صوتٌ كصرير الأسنان، وهو جرح قديم ورهيب ومستدام، يسبق الفجيعة بشطب رفيق الحريري ويعقبها. حتى بات ربيع بيروت ينتظر أوان الورد في دمشق، وخريف الشقيقة كأنّه شتاء العالمِين.
قلوبنا شاخت ألف سنة فوق عمرها، وأرواحنا فاضت بكلّ عذابات الأرض، وفي نفوسنا ما يغلب كلّ قول وكلّ عمل، لا شيء نستحضره الآن سوى البكاء. نبكي لنغسل الغبار عن شمسنا التي انطوت في ليلنا المجبول بالقهر. نحن الذين ما برأ لنا جُرح منذ نصف قرن، وقد كدنا نظنّ أنّ حياتنا استحالت جحيماً ليس له قرار.
كنّا ندفن قتلانا ونمضي. نمسح الدم عن نواصينا ونمضي. نملأ النعوش والقبور بجثث أشرف الرجال ونمضي. ما كنّا لنصدّق، حتى في بديع مخيالنا، أنّ ربيع سوريا قد آن قطافه، وأنّ البلاد التي حبسها رجلٌ في زجاجة على مكتبه، صارت كعصفورة هربت للتوّ من سجّانها.
تنفرج أساريرنا ونحن نتابع بشغف موصول ذاك الزلزال الآتي من بلاد الأمويّين. نشاهدهم وهم يحرّرون مدنهم من شذّاذ الآفاق الذين جاءت بهم الضغائن والأحقاد والأوهام المذهبية والتوسّعية من كلّ بقاع الأرض، وقد فتكوا بأهل البلاد فتك الغزاة وفتك الوحوش.
من رفيق الحريري إلى وسام الحسن
هي ثورة عظيمة. تماهينا معها وكأنّها قطعة من لحمنا. من جلدنا. من أظافرنا التي قلّمها التعب. من يوميّاتنا المُثقلة بكلّ أوجاع الأرض. من ذاكرتنا الطريّة الشهيّة المفتوحة على جراح لا تندمل. هي ثورة عظيمة. نشعر فيها ومعها أنّنا على مشارف الضوء. قاب قوسين أو أدنى من الخلاص الأكيد. في دمشق كما في شقيقتها الأبديّة بيروت.
لجرحنا الغائر في سوريا صوتٌ كصرير الأسنان، وهو جرح قديم ورهيب ومستدام، يسبق الفجيعة بشطب رفيق الحريري
لقد قدّمنا على درب حرّيتنا المشتركة أغلى الرجال. من رفيق الحريري الذي كان السكّر المضاف إلى مرارة أيّامنا. ذاك الوجه الصاخب المستكين الذي أبى أن يغيب على مدى عقدين كاملين. كان معنا عندّ كلّ مفصل وكلّ استحقاق وكلّ زاوية وكلّ مفترق. إلى وسام الحسن. العزيز الحبيب المكلّل بذاته. إلى جبران التويني وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميّل وكوكبة لا تنضب من أصحاب النفوس الأبيّة الذين دفعوا من دمهم ثمن الياسمين الذي فاح عطره في بيروت وفي دمشق.
هذا بشّار وقد هوى، وهوت معه كلّ الأوهام وكلّ الأحقاد التي اجتاحت الخرائط والحواضر والعواصم. وبقي أهل الأرض وملح الأرض. ينهضون من ركامهم إلى غدهم. يحملون مشعلهم الثقيل. بقلوب نقيّة وصافية. لا يبحثون عن ثأر أو انتقام. بل يغفرون ويترفّعون. لأنّهم يريدون لهذه البلاد أن تدخل عصر النور، بعدما رقدت طويلاً في أقبية الظلم والظلام.
إقرأ أيضاً: إيران وسقوط أحجار الدّومينو
غداً تُقبل علينا الأيّام بحلوها، معاً سنطوي آخر فصول القهر، ومعاً سنكتب أوّل سطر في حكاية الفرح الطويل، ومعاً سنحمل بلادنا ومدننا وعواصمنا إلى حيث يجب أن تكون. ومعاً سنردّد على مسامع الدنيا أنشودة الحرّية التي دفعنا في ركابها جبالاً من الجثث وبحاراً من الدماء. نحن عمود البيت وأوتاده، ونحن متن العرب وضلعهم وجبينهم، نحن منهم ونحن إليهم راجعون.