اذا نجح اتّفاق وقف إطلاق النار في الصمود بوجه الخروقات اليومية، ليجتاز معمودية الستّين يوماً المحدّدة للهدنة، يمكن القول إنّ الاستحقاق الرئاسي اللبناني القابع منذ أكثر من سنتين في عنق الشغور، أمام فرصة جدّيّة لإنجازه في الموعد المحدّد له، في 9 كانون الثاني المقبل. لكنّ الجديد هو سقوط ترشيح قائد الجيش جوزف عون، وترشيح رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجية.
تقول مصادر معنيّة بالانتخابات الرئاسية إنّ شغور السنتين كان بمنزلة محرقة قاتلة تكاد تقضي على معظم الترشيحات المطروحة بسبب مواقف الكتل النيابية السلبية منها، بحجّة أنّ كلّاً منها محسوب على جهة معيّنة. وأبرز من غادروا منطقة الترشيحات المحتملة اثنان:
1- كان رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجية أوّل ضحايا هذه المحرقة، بسبب رفض القوى المسيحية ترشيحه، فيما قضت نتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان على آخر فرصة لدخول قصر بعبدا، وصار لا بدّ من انتظار معجزة تقاطع إقليمي أميركي – إيراني على اسمه لكي يتجاوز الرفض الداخلي.
الاستحقاق الرئاسي اللبناني القابع منذ أكثر من سنتين في عنق الشغور، أمام فرصة جدّيّة لإنجازه في الموعد المحدّد له، في 9 كانون الثاني المقبل
هذا مع العلم أنّ نائب رئيس المكتب السياسي في “الحزب” محمود قماطي لفت في مقابلة صحافية إلى سعي “الحزب” إلى “تكبير الكتلة النيابية التي تؤيّد المرشّح الرئاسي سليمان فرنجية، ومتمسّكون به”.
2- ثاني المنضمّين إلى تلك القافلة قائد الجيش العماد جوزف عون بسبب رفض الثنائي الشيعي له. وهو رفض تجلّى بوضوح حين حاولت واشنطن تمرير هذا الترشيح تحت ضغط انطلاق العدوان الإسرائيلي، حين كان الإرباك يسيطر على “الحزب” بفعل ضرب قيادته العسكرية… لكنّ تصدّي الثنائي لمشروع انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية أحاله إلى مرتبة “الترشيحات الخصمة” المستبعدة عن الطاولة، فيما يتبيّن من بورصة مواقف القوى الخارجية أنّ ترشيح قائد الجيش فقد شيئاً من الاندفاعة الدولية.
بعد انتهاء النقاش في هذين الترشيحين، هناك رزمة كبيرة من الترشيحات الوسطيّة التي تفيض بها الصالونات السياسية، والتي جعلت من أكثر من عشرين مارونيّاً طامحين لدخول قصر بعبدا، بعدما صارت أسماؤهم على طاولات القوى المقرّرة، من خلال تشريح سيرهم الذاتية، ارتباطاتهم، جذورهم السياسية، شبكة علاقاتهم ومصالحهم.
الثّنائيّ لن يعطّل
فعليّاً، تقود القراءة المتأنّية لنتائج الحرب، واستطراداً لاتّفاق وقف إطلاق النار، إلى الاستنتاج بأنّ الثنائي الشيعي ليس في أفضل أحواله، وتحديداً “الحزب”، بعد سلسلة الضربات التي تعرّض لها، والأحوال الصعبة التي يواجهها ناسه وبيئته، إضافة إلى الدمار اللاحق بالقرى والبلدات الجنوبية والبقاعية والضاحية الجنوبية، وهو ما يستدعي التفكير بكثير من الواقعية، ومقاربة الاستحقاق والملفّات بمنظار مختلف.
تقول مصادر معنيّة بالانتخابات الرئاسية إنّ شغور السنتين كان بمنزلة محرقة قاتلة تكاد تقضي على معظم الترشيحات المطروحة بسبب مواقف الكتل النيابية السلبية منها
بهذا المعنى، تقول المصادر إنّ سياسة تعطيل الاستحقاق الرئاسي من جانب الثنائي الشيعي صارت أكثر كلفة في هذه الظروف الصعبة. لا بل قد يكون الرئيس برّي مستعجلاً أكثر من غيره لإعادة إنتاج السلطة وتحريك العجلة الاقتصادية والعمل على إعادة الإعمار، ووضع البلد من جديد على السكّة الدولية. كما يعلم تماماً أنّ هذه الانطلاقة المتجدّدة دونها شروط يضعها المجتمع الدولي، ولا قيامة للبنان من خارج مواصفات دولية صارت معروفة.
بناء عليه، ترى المصادر أنّ المعايير التي تتحكّم بالاستحقاق، والتي كرّست جزءاً منها وقائع الأشهر الأخيرة، هي التي ستغربل الترشيحات، لتزيح من شطبته الأحداث والفيتوات المتبادلة بين القوى السياسية، وتترك الأكثر جدّية لمواجهة جلسة التاسع من كانون الثاني.
تقول المصادر إنّ الثنائي قد لا ينتظر يوم الاستحقاق ليواجه الرئاسة بـ”حواضر البيت”، خصوصاً أنّه يخشى سيناريوهات غير محسوبة أو متوقّعة، كأن يرفض مثلاً نوّاب المعارضة مغادرة قاعة البرلمان مصرّين على إجراء الاستحقاق عبر فتح دورات متتالية، فيما كتلتا الثنائي مُحرجتان في تعطيل النصاب.
لذلك ترى المصادر أنّ الثنائي قد يكون للمرّة الأولى أكثر من جدّيٍّ في البحث عن ترشيح قادر على تجاوز الاصطفافات. لهذا يبادر الرئيس بري إلى التلميح إلى قبول فريقه برئيس “لا يكون معادياً”، واصفاً رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية بـ”عماد المرشّحين”، من باب زكزكة قائد الجيش العماد جوزف عون.
تقول المصادر إنّ سياسة تعطيل الاستحقاق الرئاسي من جانب الثنائي الشيعي صارت أكثر كلفة في هذه الظروف الصعبة
حراك دوليّ على خطّين
في هذا السياق، تكشف المصادر عن حراك دولي موازٍ للحراك المحلّي في سياق العمل على إنجاز الاستحقاق. إذ تفيد المعلومات أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حمل إلى السعودية، في لقائه مع وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، عدداً من الأسماء التي جمعها موفده لودريان في زيارته الأخيرة لبيروت.
بالموازاة، يبدو أنّ الموفد الأميركي آموس هوكستين قرّر الانخراط بدوره في الوحول الرئاسية من خلال تفعيل محرّكات اتّصالاته مع القوى اللبنانية، وهو الذي صار خبيراً في الملفّ اللبناني، ويعرف شخصيّاته عن قرب، ويدرك مكامن التعطيل والاعتبارات. وتفيد المعلومات، نقلاً عمّا سمعه مسؤولون لبنانيون من هوكستين، أنّ برّي قدّم التزاماً واضحاً أمام الموفد الأميركي بإنجاز الاستحقاق فور وقف العمليات العسكرية. وفعل أمام لودريان أيضاً.
تقول المصادر إنّ الثنائي قد لا ينتظر يوم الاستحقاق ليواجه الرئاسة بـ”حواضر البيت”، خصوصاً أنّه يخشى سيناريوهات غير محسوبة أو متوقّعة
تثبيت الحدود البرّيّة
يضيف هؤلاء أنّ هوكستين يقول إنّ الإدارة الأميركية تفضّل وجود رئيس للجمهورية وحكومة مكتملة الصلاحيّات خلال المرحلة المقبلة الحرجة جداً، التي من المرجّح أن تشهد مفاوضات لإعادة تثبيت الحدود البرّية. وتشير إلى أنّ الأميركيين، وتحديداً هوكستين، لن يُغرقوا إدارتهم في مستنقع الأسماء، نظراً للتجارب السابقة التي تمّ فيها حرق كلّ ترشيح عند تناوله من جانب أيّ مسؤول أميركي.
تكشف المعلومات أنّ الفرنسيين هم من سيتولّون خلال المرحلة المقبلة إنضاج هذه الطبخة، في ضوء التنسيق الحاصل بين واشنطن وباريس في الملفّ اللبناني (اتّفاق وقف إطلاق النار بُني على أساس الورقة الفرنسية)، حيث من المتوقّع أن يتقدّم الدور الفرنسي على الأميركي (أقلّه في العلن)، لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
إقرأ أيضاً: الشّيعة وقّعوا الاتّفاق… والرّئيس المسيحيّ سينفّذه
لمتابعة الكاتب على X: