الشّيعة وقّعوا الاتّفاق… والرّئيس المسيحيّ سينفّذه

مدة القراءة 7 د

تاريخ لبنان الحديث حافل بالاتّفاقات والانقلابات عليها، لا سيما تلك التي أبرمت في زمن الانقسام الكبير الذي انفجر في السبعينيات، واستمرّ حتى التسعينات، حين استقرّ لبنان تحت عباءة اتفاق الطائف. في ذلك الوقت، حاولت الولايات المتحدة الأميركية صياغة اتّفاقات لاستقرار مستدام على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل، ففشلت في كلّ مرّة بسبب انقلاب فريق من اللبنانيين على أيّ محاولة لعقد “شبه سلام” مع العدوّ. بين الأمس واليوم، ما الذي تغيّر في المشهد؟ ولماذا اتّفاق عام 2024 يتوقّع الأميركيون، أو بالأحرى عملوا على أن يكون اتّفاقاً مستداماً لا يمكن لأحد الانقلاب عليه؟

 

بين بشير وأمين… ونبيه

في عام 1982 رفع رئيس الجمهورية بشير الجميّل شعار الـ10,452 كلم مربّعاً في رسالة أرادها أن تؤكّد انفتاحه على كلّ القوى اللبنانية، لا سيما القوى التي حاربها قبل الرئاسة. وفي لحظة العرض الأميركي الإسرائيلي لعقد اتّفاق سلام مع تل أبيب، فضّل بشير الجميّل أن يكون ذلك قراراً وطنيّاً، لا رئاسياً. وقال حينها إنّه لن يذهب إلى اتفاق “مسيحي” من دون توقيع الشريك المسلم، فرفع عنه الغطاء، ثمّ اغتيل.

في عام 1983، وقّع شقيقه الرئيس أمين الجميّل اتفاق 17 أيار الشهير. ثمّ انقلبت عليه القوى الوطنية واليسارية وأسقطته في انتفاضة 6 شباط 1984، باعتباره مخالفاً لقناعاتها، ولا يرقى إلى ثقافة “المقاومة” ضدّ إسرائيل.

في عودة سريعة إلى خلفيّات الأحداث الماضية، لا بدّ من التوقّف عند الانقسام المسيحي – الإسلامي الذي كانت له تداعيات كبرى على الحرب، وسط اتّهام وجّهه “الفريق السياسي المسلم” إلى “الفريق السياسي المسيحي” بـ”العمالة لإسرائيل”.

تاريخ لبنان الحديث حافل بالاتّفاقات والانقلابات عليها، لا سيما تلك التي أبرمت في زمن الانقسام الكبير الذي انفجر في السبعينيات، واستمرّ حتى عام 1990

اتّفاق 2024: اختيار واشنطن لبرّي ليس صدفة

في وقت سابق من أزمة لبنان في العامين الماضيين، كان هناك تركيز دولي على انتخاب الرئيس الماروني للجمهورية، منعاً للفراغ في المؤسّسات. وفجأة، بعد بدء عمل اللجنة الخماسية بشكل جدّي لدرجة وضعها مهلة زمنية للانتخاب، اختفت اللجنة عن الساحة الداخلية، ودخل الموفد الأميركي آموس هوكستين، عاملاً على خطّ المفاوضات لوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.

بعد سجال طويل في ما يسبق، الرئاسة أو وقف إطلاق النار، ارتأت واشنطن أنّ وقف إطلاق النار أولويّة. فهي التي لها سابقة ناجحة في التفاوض حول الحدود البحرية، يوم كان ميشال عون رئيساً وكان خلفه “الحزب” هو المفاوض الأساس ومن ورائه إيران.

لهذا قرّرت واشنطن هذه المرّة القفز إلى الأمام، وتجاوزت بروتوكول التفاوض مع الرئيس المسيحي، وزكّت عين التينة ورئيسها نبيه برّي ليكون المفاوض المباشر شيعيّاً، وخلفه “الحزب”، فيصبح الثنائي عرّاب اتّفاق الاستقرار المستدام على الجبهة الجنوبية مع إسرائيل.

قرّرت واشنطن هذه المرّة القفز إلى الأمام، وتجاوزت بروتوكول التفاوض مع الرئيس المسيحي، وزكّت عين التينة ورئيسها نبيه برّي ليكون المفاوض المباشر شيعيّاً

أميركا اختارت برّي… لتفادي 6 شباط آخر

مصادر مقرّبة من هوكستين قالت لـ”أساس” إنّ واشنطن أرادت التفاوض مع برّي عن قصد، ومن خلفه مع “الحزب”. وهنا لا بدّ من العودة إلى أشهر ماضية حين كان مطلب “الحزب” التفاوض المباشر مع واشنطن. الأخيرة أعطته ما أراد تحت النار، فتفاوض الطرف الأميركي مع الفريق الشيعي بفرعَيه: برّي في عين التينة وحليفه الحزب في “حارة ما”.

وفي اللحظات الأخيرة يوم كان مستشار الرئيس برّي علي حمدان في السفارة الأميركية، كان حريصاً على التواصل مع عين التينة التي استقبلت وفداً من “الحزب” للتنسيق في كلّ شاردة وواردة.

لذلك قال النائب حسن فضل الله إنّ الاتّفاق خرج مختلفاً عمّا دخل لبنان، في إشارة منه إلى التعديلات التي طلبها الفريق اللبناني.

بالتالي من فاوض هذه المرّة على اتّفاق وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 والقبول بلجنة دولية يرأسها ضابط من القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، هو الفريق المعنيّ مباشرة بالصراع: “الحزب” والرئيس بري، وليس رئيس الجمهورية الماروني. وفي ذلك أرادت واشنطن، بحسب المصادر، أن تعطي التوقيع عن قصد لرئيس المجلس قبل انتخاب الرئيس الماروني للجمهورية.

وفي ذلك، كما يقول مقرّبون من هوكستين، ضمانة للاتّفاق بعدم الانقلاب عليه، كما حصل في 6 شباط 1984، انطلاقاً من أنّ الفريق الذي ينقلب تاريخياً على الاتّفاقات هو الذي وقّع هذه المرّة.

مصادر مقرّبة من هوكستين قالت لـ”أساس” إنّ واشنطن أرادت التفاوض مع برّي عن قصد، ومن خلفه مع “الحزب”

بين اتّفاق 17 أيّار واتّفاق تشرين نقاط مشتركة

في قراءة سريعة لاتفاق السابع عشر من أيّار واتّفاق اليوم، لا بدّ من ملاحظة عدد من النقاط المشتركة التي تؤدّي إلى استقرار مستدام على الحدود الجنوبية، لكنّ العبرة دائماً في التنفيذ. فما هي هذه النقاط؟

1- يؤكّد الاتّفاقان احترام سيادة كلّ دولة وسلامة أراضيها واستقلالها السياسي. ويؤكّدان حرمة الحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل.

2- يؤكّد الاتّفاقان أهمّية منع استخدام أراضي كلّ منهما لأنشطة عدائية ضدّ الطرف الآخر. ويذكران على وجه التحديد منع الأنشطة الإرهابية، أو التوغّلات المسلّحة، أو إنشاء البنية الأساسية التي تهدف إلى زعزعة استقرار الطرف الآخر.

3- يحظر كلّ اتّفاق وجود وعمل القوّات المعادية داخل أراضيه. على سبيل المثال:

  • نصّ اتّفاق 17 أيّار عام 1983 على تفكيك القوّات غير النظامية في “المنطقة الأمنيّة”.
  • فيما يهدف وقف إطلاق النار لعام 2024 إلى منع الانتهاكات من خلال المراقبة الدولية، ويؤكّد ضرورة تفكيك المنشآت العسكرية في جنوب وشمال الليطاني على حدّ سواء.

4- تتضمّن الاتفاقيّتان أطرافاً خارجية لتسهيل التنفيذ:

  • في عام 1983، لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً، وخاصة من خلال إنشاء لجنة اتّصال مشتركة للإشراف على شروط الاتّفاق.
  • في عام 2024، سيكون للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا دور حاسم في مراقبة الامتثال والحفاظ على وقف إطلاق النار.

5- تسعى الاتفاقيّتان إلى تعزيز الظروف اللازمة للسلام والأمن الدائمين. وتحظران الدعاية العدائية وأيّ عمل من شأنه أن يحرّض على الصراع في المستقبل.

6- تضع الاتفاقيّتان أطراً لإدارة الأمن على الأرض:

  • نصّت اتفاقية عام 1983 على “منطقة أمنيّة” بموجب ترتيبات محدّدة تشمل القوّات العسكرية الرسمية اللبنانية.
  • تعتمد اتفاقية عام 2024 على مراقبين دوليين وآليّات مشتركة لمعالجة الانتهاكات، وضمان التزام الجانبين بالشروط.

7- تؤكّد الوثيقتان وقف الأعمال العدائية على الفور كخطوة أساسية، بهدف تهيئة الظروف لحلّ الصراع على نطاق أوسع أو تحقيق الاستقرار.

توضح هذه المبادئ المشتركة إطاراً متّسقاً في الاتفاقيات بين لبنان وإسرائيل، مع تأكيد السيادة والأمن والحاجة إلى ضمانات خارجية لإدارة العلاقات.

بات أسهل اليوم على أيّ رئيس للجمهورية أن ينفّذ الاتفاق كما هو منصوص عليه، بكلّ ما فيه من بنود تكرّس المراقبة الدولية، وتؤكّد حصريّة السلاح بيد الجيش اللبناني

رئيس مارونيّ ينفّذ توقيع الشّيعة

بات أسهل اليوم على أيّ رئيس للجمهورية أن ينفّذ الاتفاق كما هو منصوص عليه، بكلّ ما فيه من بنود تكرّس المراقبة الدولية، وتؤكّد حصريّة السلاح بيد الجيش اللبناني. لا عتب ولا انقلاب على أيّ رئيس ماروني بعد اليوم. يدرك برّي هذا جيّداً، ولذلك عندما حدّد جلسة التاسع من كانون الثاني جلسة رئاسية، وصفها بالمثمرة لأنّه يعرف أنّ الوقت حان للرئاسة بعدما ضمنت واشنطن اتّفاقاً مع الشيعة، فاتحةً الطريق لرئيس ينفّذ الاتفاق من دون ألغام سياسية.

إقرأ أيضاً: “الحزب” بعد الحرب: الولادة من “الخاصرة الأميركيّة”

لمتابعة الكاتب على X:

@josephinedeeb

مواضيع ذات صلة

هل قتل “الحاج حمزة” نصرالله وصفيّ الدّين؟

من أوقَع السّيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدّين في فخّ الاغتيال؟ هل استندَ الإسرائيليّون إلى خرقٍ بشريّ داخل “الحزب”؟ أم التقنيّة كانت هي السّبيل؟…

خمسة أيّام من “قصف” الهدنة: “الأمر” للعدوّ!

تتوالى الخروقات الإسرائيلية للترتيبات الأمنيّة المرتبطة بتطبيق القرار 1701، جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى صيدا وبعلبك، إلى حدّ التهديد بنسف هدنة الـ60 يوماً.  يحدث ذلك…

“الحزب” بعد الحرب: الولادة من “الخاصرة الأميركيّة”

أما وقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ صباح 27 الجاري، ليشكّل حدّاً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، ويدشّن مرحلة جديدة كليّاً،…

“طوفان حلب” يخترق “غلاف” روسيا وإيران

تحوّلت عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها “إدارة العمليات العسكرية”، لإبعاد إدلب وما حواليها، عن مدى نيران قوّات النظام السوري وحلفائه، إلى “طوفان حلب”. عملياً، ضمن…