هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية التي تحضر فيها عدّة أطراف إقليمية (إيران وتركيا) ودولية (روسيا والولايات المتحدة). ولأنّ الميليشيات المهاجمة لا تصلح بديلاً وتهدّد بنشر الفوضى الكبيرة، فهل يكون الحلّ بعودة نظام الأسد إلى النصائح العربية بحلٍّ سياسي ودستور جديد وتطبيق القرار الدولي 2254؟
قبل أشهر قال الخبير الاستراتيجي الفرنسي البارز برتران بادي في مقابلةٍ مع “أساس” إنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين داعمٌ علنيّ لإسرائيل في صراعاتها الحالية.
فمن الذي أثار التحرّكات من إدلب باتّجاه حلب، ولماذا الآن؟
وأين هي روسيا من الحرب الجديدة وقبلها تركيا؟
قبل أسبوعين أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان آسفاً أنّ روسيا على الحياد، وأنّ الأميركيين لا يتحوّلون عن دعم الأكراد، وأنّ تركيا لا تصبر على اعتداءات النظام و”حزب العمال الإرهابي”. لذلك صحيح أنّ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بإدلب، والجيش الوطني السوري التابع لتركيا، كانا يستعدّان منذ أشهر، لكنْ يبدو أنّ المبادرة للهجوم أطلقتها أو سمحت بها تركيا وأعلمت بها كلّاً من روسيا والأميركيين. والروس أخبروا الأسد الذي يبدو أنّه لم يصدّق. وكان الروس منزعجين منه لأنّه لم يتجاوب مع المبادرة التركية للتفاوض على إعادة المهجّرين أو مليوناً منهم. فقد رفض الأسد المبادرة ودعا الأتراك إلى الانسحاب من سورية قبل التفاوض.
هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية
أمّا الأميركيون فما اعترضوا على الهجوم. لكنّهم خشوا على محميّيهم الأكراد الذين يريد الأتراك قصقصة أظافرهم على الأقلّ بأخذ تل رفعت بشرق حلب، ومنبج على أطراف إدلب.
لماذا انسحبت قوّات النّظام وإيران؟
لكنّ المفاجئ كان انسحاب قوات النظام من حلب كلّها بدون مقاومة، بل إنّهم خلال اليومين الأوّلين للعمليات لم يدافعوا عن ريف حماه أيضاً. وما استفاق رئيس النظام، الذي يقال إنّه كان في روسيا، إلّا في اليوم الرابع حين بدأ يصرّح بمقاتلة الإرهابيين وأنّهم لا يمثّلون الشعب السوري.
أيّدت الأسد كلّ دول المشرق العربي. بل أرسل العراق نجدات ومساعدات بطلب من إيران التي وصل وزير خارجيّتها إلى دمشق وذهب أمس الإثنين إلى تركيا. وفي الوقت نفسه يصرّح النظام السوري أنّه أوقف الهجوم على حماه. لكنّه لم يعلن بعد شيئاً ممّا ينوي فعله على جبهة حلب التي سقطت كلّها مع حوافيها الكردية.
ظهر النظام السوري ضعيفاً أمام بضعة آلافٍ من المسلَّحين. وحتى الإيرانيون والحزب انسحبوا من البلدتين الشيعيّتين (نبّل والزهراء) على أطراف حلب. وقيل إنّهم ذهبوا باتّجاه البادية السورية. بينما كانوا هم الذين قاتلوا عام 2016 لاستعادة حلب من المعارضة. أما الحزب فقد استنزفته حرب جنوب لبنان، بينما استنفدت قوى الحرس الثوري الضربات الإسرائيلية. أمّا ميليشياتهم الفاطمية والزينبية فتتركّز في دير الزور وعلى الحدود العراقية في الميادين والبوكمال، إضافة إلى بعض الميليشيات العراقية واللبنانية في القلمون والسيّدة زينب.
ظهر النظام السوري ضعيفاً أمام بضعة آلافٍ من المسلَّحين. وحتى الإيرانيون والحزب انسحبوا من البلدتين الشيعيّتين (نبّل والزهراء) على أطراف حلب
النّظام كسر “خفض التّصعيد” أوّلاً
ماذا يرجو المسلّحون من وراء هجومهم، وماذا يرجو الأتراك؟
لا يبدو أنّ المسلّحين من “تحرير الشام” و”الجيش الوطني” يأملون من وراء هجومهم إسقاط النظام، مع أنّ الجمهور في حلب وريف حماه استقبلهم بحرارة على الرغم من مخاوف السنين العشر. وأوّل ما وصلوا إلى حلب أطلقوا سراح المسجونين بالآلاف، وأعلنوا عدم تعرّضهم للمدنيين ولا للأكراد. وما اتّصل بهم أحدٌ من الرسميين في العلن على الأقلّ. وقال الأميركيون إنّ التنظيم القائد للهجوم (وزعيمه أبو محمد الجولاني) هو من الإرهابيين.
تتّصل كلّ الجهات بتركيا. وأوّل المتّصلين الروس الذين قاموا ببعض الغارات بالطائرات ضدّ المُهاجمين. وكما سبق القول ذهب وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا. وكانت قوّات النظام ومعها الأكراد والإيرانيون طوال الشهرين الماضيين قد شنّت غارات وقصفاً بالمدفعية على منطقة خفض التصعيد (بإدلب وجوارها) التي اتّفقت على إقامتها تركيا وروسيا وإيران في 2019.
فتحت حرب جنوب لبنان شهيّات الجميع. وأزعجت الهجمات على منطقة خفض التصعيد تركيا، وما استطاعت روسيا من جانبها، وقد تعدّدت عليها الجبهات من أوكرانيا إلى غرب إفريقيا، أن تلبّي مطالب تركيا التي أعلنت أنّ روسيا تلتزم للأسف الحياد!
لا يبدو أنّ المسلّحين من “تحرير الشام” و”الجيش الوطني” يأملون من وراء هجومهم إسقاط النظام
إسرائيل ضدّ إسقاط النّظام
أوّل المتضرّرين من هجوم “هيئة تحرير الشام” والفصائل هو النظام السوري. وتأتي بعده مباشرةً إيران وميليشياتها وبينها الحزب. ويأتي الأكراد ثالثاً. وأوّل المستفيدين تركيا طبعاً… لكنّ إسرائيل التي أعلنت أنّها تراقب الوضع عن كثب كانت قد نبّهت الأسد إلى عدم اللعب بالنار من خلال الاستمرار في جعل سورية مستقرّاً لنفوذ إيران ومعبراً لسلاحها. إنّما لا تزال إسرائيل فيما يبدو ضدّ إسقاط النظام السوري. وتصرّح بذلك منذ عام 2011. ولا تزال أميركا تمارس رطانة إبقاء قوّاتها في المنطقة الكردية لمكافحة الإرهاب!
الكلّ ما عدا إيران يطالب النظام السوري منذ سنوات بالخضوع للقرار الدولي رقم 2254 والتفاوض مع المعارضة على حلٍّ سياسي ودستور جديد. لكنّ العارفين يدركون أنّ النظام السوري هو مثل لوح الزجاج الذي لا يقبل المرونة، بل الحلّ الوحيد معه هو الكسر. وإذا كان الأسد يقول إنّ المهاجمين لا يمثّلون الشعب السوري، فهو أيضاً ليس أكثر تمثيلاً. فهؤلاء المهاجمون هم في معظمهم ميليشيات لا تستطيع أن تكون بديلاً ولا أن تنشئ دولة على الرغم من تبدّلات الجولاني ومحاولته تقديم صورة غير معادية للغرب ولا للعرب في السنوات الأخيرة. ودول المشرق العربي التي بدت داعمةً للنظام إنّما تخشى الفوضى العارمة والتقسيم إذا سقط بشار… فما العمل؟
أوّل المتضرّرين من هجوم “هيئة تحرير الشام” والفصائل هو النظام السوري. وتأتي بعده مباشرةً إيران وميليشياتها وبينها الحزب. ويأتي الأكراد ثالثاً
لن يسقط النّظام
لن يسقط النظام الآن، فقد صمد ثلاثة عشر عاماً. لكنّه لا يستطيع لملمة الشمل السوري، ما دام منطقه أنّ كلّ من ليس مع النظام هو إرهابي. فماذا يفعل المهجَّرون الذين يبلغ عددهم عشرة ملايين؟
لقد بدأ عشرات الألوف يتدفّقون على حلب بمجرّد استيلاء المسلّحين عليها لأنّهم أُرغموا على ترك ديارهم قبل سنوات. وحتّى أهل درعا في الجنوب السوري تظاهروا ابتهاجاً أيضاً.
سيبدأ النظام عملية استعادة حلب التي قد تستغرق شهوراً وشهوراً. وعندما سقطت عام 2016 إنّما كان ذلك بدعم إيران والحزب والطائرات الروسية بالتعاون مع تركيا التي تخلّت عن دعم المعارضة آنذاك. ولا ندري ماذا ستفعل تركيا المنتصرة هذه المرّة.
إقرأ أيضاً: حلب إذ تختصر الشرق الأوسط
إنّ الراجح أنّه لا بدّ من بديلٍ من داخل الجيش وداخل النظام يتجاوز بشّاراً وأخاه، ويقبل بالتفاوض على أساس القرار الدولي، أو تبقى سورية ثلاثة معسكرات أو أربعة إلى أجل غير مسمّى.
هل يستمع بشار الأسد إلى النصائح العربية، ولو متأخّراً، ويعود إلى الحلّ السياسي والدستور الجديد والقرار 2254؟