لم ينتظر أهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية طلوع الفجر لكي يجهّزوا أمتعتهم ويتوجّهوا إلى قراهم وبيوتهم التي تركوها تحت وابل القصف والتهجير القسريّ، ولو أنّهم يدركون أنّ بلداتهم قد تكون دمّرت بالكامل.
ترك الآلاف أماكن نزوحهم في المدارس والجامعات ومراكز الإيواء، منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار عند الرابعة فجراً. يروي حسين (45) أنّه وزوجته هيام (41) “ضبضبوا” كلّ أغراضهم في مركز الإيواء في الحمرا ووضعوها في السيّارة، وانتظروا سريان قرار وقف إطلاق النار. “الساعة 4 كنت عم دوّر السيارة وطلعت دغري. وصلت على أوتوستراد صيدا ونطرت هونيك، حتى طلع الضو”. ويضيف “كنت مفكّر رح كون أول واحد بالنبطية، لكن تفاجأت أنّ زحمة السير خانقة على طريق الجنوب كأنّو الدني نهار، كما كانت عندما تركنا إلى بيروت”.
يعمل حسين دهّاناً. توقّف عمله 7 أشهر تقريباً، وهرب مع أمّه وأولاده الثلاثة وزوجته مع احتدام المعارك في الجنوب في أيلول الماضي. “بيتنا تضرّر بشكل كبير، لكنّني عائد حتى لو نصبت خيمة أمام المنزل وتحت الشتاء. كلّ شيء سنبنيه بأيدينا. لكنّ المهمّ أنّ الحرب انتهت. لسنا خائفين فنحن أصحاب الأرض، لكنّ خساراتنا المادّية كبيرة ولدينا ضحايا وجرحى كثيرون بين أفراد العائلة الكبيرة والجيران وأهل الضيعة”.
للبيوت أرواح وذكريات نبكيها بصمت
من يرى الدمار الهائل في الضاحية، لا يصدّق أنّ هذه الشوارع المزدحمة قبل الحرب وتلك المباني الشاهقة الجميلة سُوّيت أرضاً بكلّ ما فيها من ديكورات وأثاث وذكريات وصور وأحلام وجهود وتعب.
عادت زحمة السير المخيفة إلى طرقات الضاحية. يقول زوج فاطمة الذي لديه دكّان للسمانة في عديسة: فخّخوا بيوتنا كلّها. لا يمكنني العودة إلى العديسة الآن
تبكي ماجدة مبارك (60 سنة) أمام ركام بيتها في منطقة الصفير في الضاحية الجنوبية لبيروت، الذي دُمّر في الليلة الأخيرة من الحرب. “لا أشعر بالفرح، ليس لديّ بيت أعود إليه، الناس فرحة لأنّها ستعود إلى المنازل التي اشتاقت إليها، وأمّا نحن فليس لنا منزل الآن”. ويقول زوجها شفيق (70 سنة) الذي يعمل تاجراً لبيع الملابس: “قضيت عمري كلّه لأبني بيتاً في بيروت وبيتاً في قريتي عيتا الشعب. بنيت قصراً من دموع العين ومن عرق الجبين. عملت في لبنان والكويت، ثمّ عملت موظّفاً إلى أن ارتحت وأسّست مؤسّسة لاستيراد الثياب من تركيا والصين”.
يؤكّد: “سرقت المصارف أموالي وهدمت إسرائيل بيتي وبيت ابني في بيروت، وبيتي في عيتا الشعب، وها نحن من دون عمل منذ أيلول الماضي، والحالة الاقتصادية في لبنان تشهد أزمات كبيرة منذ 2019”. ثمّ يقول وزوجته في صوت واحد: “الحمد لله أنّنا بخير وأولادنا وعائلتنا الكبيرة بخير، هذا هو الأهمّ، الله يعوّض علينا، لكنّ الغصّة لن تفارقنا بعدما رأينا تفاصيل حياتنا كلّها ركام”.
لم يكتفِ الزوجان المتحابّان، “العشّاق الجدد”، بحسب حكي الجيران، بزيارة واحدة لركام بيتهما. “في اليوم الأوّل أتينا وبكينا وعدنا مجدّداً. نشعر أنّ قلوبنا هنا كأنّنا تركنا طفلاً أو شيئاً منّا ونريد زيارته. في هذا البيت مرضنا وحزنّا وفرحنا وزوّجنا أولادنا ولعبنا مع أحفادنا. لا نستطيع التفكير، لكنّ الله يعوّض”، تقول ماجدة.
الحذر سيّد الموقف
الغصّة في القلب، والفرح طاغٍ لوقف إطلاق النار، لكنّ الحذر واجب. لم تعد الناس تثق بالاتّفاقات التي تبرمها إسرائيل والبعض خائف من تهوّر على الحدود. “هذه الحرب بهدلتنا، ذلّتنا، ولم نكن نريدها. والآن بعدما دمّر بيتي وبيت أهلي وبيوت جدّي وخالاتي في الضاحية وفي ضيعتنا في العديسة، لا أعرف إلى أين سنعود”، تقول فاطمة (33 سنة).
الغصّة في القلب، والفرح طاغٍ لوقف إطلاق النار، لكنّ الحذر واجب. لم تعد الناس تثق بالاتّفاقات التي تبرمها إسرائيل والبعض خائف من تهوّر على الحدود
تضيف: “نزحنا أنا وأهلي وأقاربي حوالى 4 مرّات. مرّة من الجنوب إلى صور، ثمّ إلى الضاحية، ثمّ إلى مدرسة في الصنائع في بيروت. والآن نحن في الطريق إلى الضاحية لنتأكّد ما إذا بقي لنا أيّ حجر. قالوا إنّ المبنى سُوّي بالأرض، لكن نريد أن نرى المأساة بعيوننا”.
عادت زحمة السير المخيفة إلى طرقات الضاحية. يقول زوج فاطمة الذي لديه دكّان للسمانة في عديسة: “فخّخوا بيوتنا كلّها. لا يمكنني العودة إلى العديسة الآن لأنّني أخاف أوّلاً من تهوّر إسرائيل، فقريتنا على الحدود والعدوّ يحذّرنا من العودة… لم أفهم الاتفاق جيّداً. هل هو احتلال أم انسحاب أم تفريغ للقرى الحدودية؟”.
“لا يمكنني رؤية القرية وهي من دون بيت وكلّ حجر على الأرض. ربّما لاحقاً أذهب، لكنّني حزينة لأنّ قريتي كلّها تراب الآن”، تؤكّد فاطمة. ويردف زوجها :”رافقت زوجتي لترى بيت أهلها في الضاحية ثمّ سنعود إلى مركز الإيواء في بيروت، فهو الملاذ الآمن اليوم”. يسأل وهو خائف من المستقبل: “من سيُعيد إعمار كلّ هذه القرى وكلّ هذه المباني؟ من سيعيد لنا ذكرياتنا؟ من سيشتري لنا أثاثاً؟… أسئلة لا إجابات لها حتى الآن”.
إلى بعلبك نعود والغصّة في القلوب
لم ترضَ غنوة (55 سنة) وأخوتها وأطفالهم الانتظار في زحمة السير للوصول إلى شمسطار في بعلبك، فسلكوا طريق الأرز من مكان نزوحهم في طرابلس، بعد نزوح دام 3 أشهر. “لم ننَم كلّنا في البيت، فطوال الليل ننتظر أخبار الغارات ووقف إطلاق النار. تعبنا ونريد العودة إلى بيوتنا فقط لنكون بين أهلنا وأقاربنا”.
من يرى الدمار الهائل في الضاحية، لا يصدّق أنّ هذه الشوارع المزدحمة قبل الحرب وتلك المباني الشاهقة الجميلة سُوّيت أرضاً بكلّ ما فيها
لم يسبق لغنوة أن تركت بيتها، فهذه المرّة الأولى التي تتعرّض فيها بعلبك لمثل هذه الحرب الضروس، وللمرّة الأولى يترك الأهالي بيوتهم. لكنّ غنوة ككثير من العائدين إلى قراهم ليست على ما يرام: “طبعاً شعرنا بالارتياح لوقف إطلاق النار، ونحمد الله أنّ بيوتنا لم تدمّر، لكنّنا لسنا مبسوطين، فالبلاد شبه مدمّرة وعشرات من أقاربنا استشهدوا أو جرحوا في الحرب. نحن حزينون لخسارة الأرواح الكثيرة. كلّهم أطفال ونساء وشباب أبرياء”.
استأجرت هبة (40 سنة) مع زوجها وابنتها بيتاً صغيراً في الأشرفية في بيروت في تشرين الأوّل عندما اقترب القصف إلى قريتهم في بدنايل في بعلبك شرق لبنان. “قصفوا مبنى ملاصقاً لبيتنا واستشهدت عائلة بكاملها. عندها تركنا البيت الذي تضرّر كثيراً، لكنّنا كنّا نعرف أنّنا عائدون ولن نترك أرضنا”.
إقرأ أيضاً: صيدا: مدينة النّازحين والخائفين من نيران الفتنة
تعمل هبة معلّمة مدرسة: “اشتقت لكلّ تفصيل في ضيعتي، لطلّابي في المدرسة، لمشاجرتي مع الجيران. اشتقت للقهوة في الدار مع الأقارب. طبعاً سعداء للعودة لأنّنا تبهدلنا خارج مدننا”. لكن مع كلّ فرحة غصّة: “لم يكن سهلاً أن نبقى أحياء بعد حرب كبيرة، لكن نحن الآن نعاني من مشاكل نفسية جمّة، وأولادنا أيضاً، وحزينون على البيوت والأرزاق وعلى محاصيلنا الزراعية التي احترقت، وحزينون على الناس التي ماتت”.