صيدا: مدينة النّازحين والخائفين من نيران الفتنة

مدة القراءة 9 د

نبدأ اليوم بنشر سلسلة جولات قام بها “أساس” في عدد من مناطق الجنوب وبيروت، التي يستهدفها العدوّ الإسرائيلي، وتلك التي تعجّ بالنازحين. البداية من صيدا، بوّابة الجنوب، وهي كانت وجهتنا الثالثة بعد جولة سريعة في الشمال وضاحية بيروت الجنوبية وبيروت. والهدف هو متابعة أوضاع النازحين والبحث في أرقام الشهداء المتضاربة، والنظر في شعبية الحزب بعد اغتيال أمينه العامّ.

فما هي الحال في مدينة مختلطة تحتضن أكثر من 500 عائلة نازحة من الجنوب والضاحية والبقاع؟

الخوف يصكّ الركاب في السيارة. أسأل عناصر الجيش اللبناني حذرة على حاجز الأوّلي: “سالكة؟”، فيردّ أحدهم مبتسماً: “بإذن الله بصيدا ما في شي”. تُنبئ هذه الابتسامة بشيء من الطمأنينة. لكن يلاحقنا رهاب القصف والغارات التي تابعناها عبر الشاشات في عين الدلب شرقي مدينة “المقاومة والتضامن” بلغة أنصار “الشعبي الناصري”. رهاب لا يزال محفوراً في أجسادنا. فقد شهدت المنطقة أكبر مجزرة في مكان واحد منذ بدء الحرب حتى 29 أيلول الماضي.

أرقام الشهداء متضاربة، لكنّ الوكالة الوطنية للإعلام نشرت أنّهم وصلوا إلى 71 شهيداً و58 جريحاً. وهناك مواقع إخبارية تابعة للحزب نشرت أنّ عدد الشهداء 41. أمّا وزارة الصحّة فلم تردّ على سؤالنا عن العدد النهائي والدقيق للضحايا الذين دفنوا جماعياً في مقبرة سيروب ومقبرة حارة صيدا، كلّ بحسب طائفته. لكنّ آخر ما ذكرته كان 45 شهيداً. وذكرت قناة “العربية” أنّ المستهدف كان أحد قياديي الحزب أحمد عواركي. أمّا الخبر اليقين فليس لدى أحد، ولم ينعَه أحد رسمياً.

حركة طبيعيّة… لكنّ النّفوس متوتّرة

بعد حاجز نهر الأوّلي، الحركة تقريباً طبيعية في ثالث أكبر مدينة في لبنان. الباعة المتجوّلون على الكورنيش، المحالّ التجارية والمطاعم كلّها مفتوحة. مقاهي الرصيف ممتلئة بالروّاد. لكنّ معظمهم عابسون ونظراتهم شاردة. يجلسون على الرصيف ويتابعون حياتهم بشكل عاديّ. بائعو التين والتفاح الآتون من حاصبيا ثابتون هناك عند دوّار إيليا. حتى النوادي الرياضية تفتح أبوابها للمشتركين وللوافدين الجدد.

تعجّ المدينة بالسيّارات المحمّلة على ظهورها بالفرش والحرامات. كأنّ التاريخ مصرّ على أن يعيد نفسه ويعيدنا إلى مشاهد النزوح والخوف والقلق والتشتّت، في 2006 وحرب نيسان 1996 وقبلهما اجتياح 1982 وغزو الجنوب في 1978. مراكز الإيواء امتلأت عن بكرة أبيها. نسبة إشغال الشقق في صيدا وضواحيها وقراها المجاورة وصلت إلى مئة في المئة، كما يؤكّد زهير أحد الناشطين من التنظيم الشعبي الناصري في خدمة النازحين.

يستغرب غير المعتاد على المدينة في أثناء الأزمات تلك الحيويّة التي تُنبئ بها شوارعها وناسها حتى النازحون إليها. الكلّ يترقّب الحرب بهدوء. الناس شبه مسمّرة أمام شاشات تلفوناتها وأخبار إنذارات أفيخاي أدرعي وخرائطه غير المفهومة. لكنّهم ليسوا غارقين بالتوتّر كما هي حال المناطق المكتظّة بالنازحين في بيروت مثلاً.

يقول فؤاد، النازح من النبطية وعرف صيدا في كلّ نزوح رافقه منذ كان طفلاً حتى اليوم الذي بلغ فيه السادسة والأربعين: “صيدا هي عاصمة التضامن، ومعتادة أجواء الحرب، أو لنقُل إنّها تعرف تماماً لوعة الحروب وكيفية الاستجابة لها. لذلك تحافظ على حركتها الاعتيادية تقريباً. فهي بوّابة الجنوب الذي لم يعرف الهدوء قطّ ولم يثق بالعدوّ الإسرائيلي مطلقاً”.

تعجّ المدينة بالسيّارات المحمّلة على ظهورها بالفرش والحرامات. كأنّ التاريخ مصرّ على أن يعيد نفسه ويعيدنا إلى مشاهد النزوح والخوف والقلق والتشتّت

نازحون من بعلبك أيضاً

أنا لست غريبة عن صيدا، أسكن على بعد 10 دقائق من قلب المدينة، لكنّني لم أُعرف بالانتماء إليها أو التصالح معها كمدينة بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة، لكنّ الحرب صالحتني معها ولفتني احتضانها للناس حتى من أقاصي البقاع. في أحد المراكز التي تمنح النازحين وجبات غذاء وفرش في حارة صيدا، يصل رجل ستّينيّ يطلب المساعدة: “أنا من جنسنايا ولديّ عائلتان (12 شخصاً) من آل العزير أتوا للتوّ من بعلبك”. استغربت أن يأتي أهل شرق لبنان إلى الجنوب للاحتماء بفيء صيدا وسكونها. فشرح لي حسين أحد الناشطين: “صيدا إن شاء الله آمنة، وفيها مجتمع مضياف يفهم جيّداً معنى الدمار والقصف ونار العدوّ. ويقصدها النازحون نظراً لتقارب الثقافات في الحروب وفهم الحاجات، ونظراً للتصاهر بين العائلات”.

حسن نازح مع أخوته وأقاربه من صور، يعمل مدرّباً رياضياً ولم تمنعه الحرب من ممارسة الرياضة في النادي في حارة صيدا ذات الغالبية الشيعية. يخبرنا أنّه لا يمكن ترك الرياضة حتى تحت القصف. ويعتبر أنّ “الجلوس أمام شاشات التلفزيون يستهلك طاقاتنا ويمدّنا بطاقات سلبية، لذا هربت من أجواء الحرب إلى النادي. وهنا يوجد كما ترين 5 شباب غيري، وحتى بعض العائلات نزحت إلى النادي”. لا يخاف التنقّل ويعتبر المدينة مريحة وآمنة: “لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم”. أمّا عليّ ابن العشرين سنة، أحد المدرّبين في النادي الذي نزحت عائلته من الغازية لتسكن في النادي نفسه، فيعتبر أنّه “يستمدّ القوّة من رجال المقاومة، وما دام هناك مقاومون فنحن لا نخاف”.

بقايا القهوة والنراجيل… في عين الدلب

في جولة تفقّدية لمكان المجزرة في عين الدلب، حيث تتصاعد أصوات الغارات من جهة عنقون والقرى المجاورة، لا تزال فناجين القهوة وحدها على أحد الرفوف، مكوّمة مع بقايا النراجيل، كأنّ اجتماعاً عائلياً كان هنا… راحت العائلة وبقيت الفناجين تنتظر من يحملها ويملؤها قهوة. المكان موحش. رائحة الموت لا تزال هنا. المبنى صار رماداً. وحدها الجرّافات كانت تعمل في مساحة كبيرة ساكنة صامتة مظلمة، نستطيع أن نرى فيها بقايا قطع أثاث وثياب أطفال وطابة وقطعة قماش زهرية.

الحيّ فرغ من سكّانه. المباني المجاورة عارية تماماً من الزجاج. السيّارات محطّمة تنتظر من ينقلها إلى مكان آخر. لا صوت يعلو على صوت الموت والضربات البعيدة والدخان الذي تخلّفه. وحده المراهق الذي يعمل في الدكّان القريب للمبنى المستهدف وجدناه هناك. روى أنّه “لم يكن أحد يتوقّع أن تقصف إسرائيل هذه المنطقة لأنّها مختلطة وليست فيها مراكز للحزب. وقد لجأ إليها كثير من أبناء الجنوب”. وتابع: “منذ وقوع المجزرة لا أستطيع النوم، نظراً لما رأيته من أشلاء أطفال وأجساد مقطّعة… لا يمكن وصف ما رأيت”. يبدو الشابّ خائفاً. سألناه هل كان في المبنى قادة من الحزب كما أشيع أو اجتماع أمنيّ. ارتبك وقال: “لا أعرف شيئاً”. ثمّ سألناه هل يعرف عدد الضحايا، فقال: “كانوا كثراً. كان هناك كثير من الأشلاء والرؤوس، وبعض الجثث بقيت تحت الركام”.

هشام البابا… أحد الناجين

ليس سهلاً الحديث عن مأساة لا تزال حاضرة وطازجة في الأذهان. لكن بالنسبة لهشام البابا الجريح والناجي من الموت بعد تسع ساعات تحت الردم، والشاهد الذي كتب الله له عمراً جديداً: “الوضع سوريالي وأكثر من مؤلم”. زرناه في المستشفى قبل المغادرة. تساءل: “ماذا أقول بعدما فقدت أختي دنيز الأعزّ على قلبي وأمّي الثانية، وابنتها نيرمين التي تتعلّق بها روحي، وصهري وابن أخي ابن الرابعة عشرة… فقدان جماعي في لحظة واحدة… كنت في الحمّام أتحضّر لشرب القهوة معهم… إنّه الطوفان الكارثة… لا أعرف ماذا أقول”.

يعيش هشام في برلين ويتحدّث لغات عدّة، وكان في إجازة سنوية في لبنان: “لكنّ الإجازة تحوّلت إلى مأساة”. هشام أيضاً ليس متأكّداً من عدد الضحايا. لفتته الأرقام المتضاربة بين وسائل الإعلام ووزارة الصحّة وإعلام الحزب. لكنّه متأكّد تماماً أن “لا أحد من الشعب اللبناني يريد الحرب. ولا أحد يريد التهجير ولا الدمار. نحن شعب يحبّ الحياة والسهر والسلام، وإسرائيل مجرمة، هذا قطعيّ، لكنّنا أبرياء”.

بوجه حزين قاتم، وعين يغطّيها الشاش والشريط اللاصق، وجروح تملأ وجهه وجسده، تحدّث عن “قطبة مخفيّة في هذه المجزرة”، وسألنا بدل أن نسأله: “لماذا هذا المبنى بالذات؟ ولماذا عين الدلب؟ من المقصود، أختي دنيز البريئة أم جيرانها المعتّرون؟”. أجاب بنفسه: “قطعاً لا، إسرائيل تعرف كلّ شيء، وربّما وصلتها معلومات عن شخص مهمّ مختبئ هنا في المبنى، لست متأكّداً. أنا أظنّ ذلك، لكنّني لم أرَ شيئاً”.

يعترف هشام بالخوف ممّا قد يفعله الإسرائيليون أكثر: “كلّنا مرعوبون ولا ننسى مجازرهم في لبنان على مرّ السنين وفي غزة”.

هذا الخوف من الإسرائيلي، يقابله، بعد مجزرة عين الدلب ومجازر أيطو في زغرتا ورأس النبع وسليم سلام في بيروت، وغيرها من المناطق المختلطة طائفياً، خوف من “النازحين” في صيدا، أو “عناصر الحزب المختبئين بين النازحين”.

الخوف والشّكّ بين الأهالي والنّازحين

يقول سهيل وهو ينقل وجبات العشاء لتوزيعها على النازحين، مع رفاق له في مركز التنظيم الشعبي الناصري: “صيدا تحتضن اليوم مئات العائلات من الجنوب والضاحية والبقاع، وهي كانت السند الأساسي للمقاومة وللناس المتروكة من دون أيّ اهتمام رسمي أو حزبي ولا خطّة واضحة رسمية، منذ بدء الحرب قبل عام”. لكنّه يعترف بأنّ “الخوف بات يدخل بين الأهالي وبين النازحين ويرمي الشكّ بين الجدران وفي المباني وحتى في السوق والمحالّ التجارية. فالكلّ بات مرعوباً من فكرة لجوء عناصر أو قيادات من الحزب بين المدنيين. وهذا أمر لا يخفى على أحد”.

ترى سلمى، وهي مساعدة اجتماعية ومتطوّعة تهتمّ بشؤون النازحين، أنّ الموضوع بات يهدّد السلم الأهلي: “نحن نعمل هنا مع جمعيات مختلفة على الأرض منذ 40 سنة، ومتخوّفون من فتنة سنيّة شيعية ومن حوادث أمنيّة متفرّقة، ولذا ندعو الناس في مراكز الإيواء إلى الهدوء. وتحاول فعّاليات صيدا السياسية التخفيف من وطأة الرعب وخفض حدّة الخطابات السياسية لاستيعاب الأزمة الناشئة، وتعتبر تأمين النازحين وأهل صيدا أولوية مطلقة”.

إقرأ أيضاً: “أساس” في أروقة المستشفيات: قطاع التّمريض يَئِنّ.. ويتطوّع

مواضيع ذات صلة

السّعوديّة: لدولة فلسطينيّة… لا تحتاج موافقة إسرائيلية

الصراعات لا تنتهي، وتحديداً في الشرق الأوسط. هذه معادلة خبرتها كلّ الدول والقوى والأمم على مرّ التاريخ. لذا لا بدّ من العمل على كيفية إدارتها…

جـردة حـسـاب

بين مقعده، وصورة “كاريزمية” للراحل حسن نصرالله وعلَمَي الحزب ولبنان، “يحشر” نفسه الأمين العام الجديد للحزب نعيم قاسم في إطار تلفزيوني وأجندة إيرانية وثقل تركة…

هوكستين عائد بعد الانتخابات: التسوية تنتظر الرئيس الجديد

واشنطن   ليست سهلة الانتخابات التي تخوضها الإدارة الديمقراطية. فهي تنافس الحزب الجمهوري على “المنخار” بحسب التعبير اللبناني. كثيرة هي التناقضات التي أصابت جمهور الحزب…

“إنزال” في البرلمان: التّمديد لقائد الجيش

يترافق سقوط مفاوضات وقف إطلاق النار مع انكشاف أمنيّ وعسكري وسياسي كامل، عبّر عنه بالسياسة النائب السابق وليد جنبلاط بقوله إنّ “آموس هوكستين تآمر علينا…