على باب الاستقلال الثّالث

مدة القراءة 8 د

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس من حرب إلى أخرى. في الأساس لم يلوّن “الآباء المؤسّسون” الاستقلال بحُمرةِ تُذكر. جلّ ما في هذه المحطّة كان اعتقال مجموعة رجال في راشيا، وما لبثت بعد الخروج أن حكمت البلد وأهله. وكانت هذه الجماعة نواة الحياة السياسية التي تشكّلت من حولها “وطنيّة” مُلتبسة، بل وتكيّفت مع قواميس عديدة فرضت حضورها على لبنان: من العروبة الأيديولوجية إلى قضيّة فلسطين مع أسانيدها الكثيرة… فهل نحن على باب استقلال ثالث يلتحق بمواعيد الاستقلال الكثيرة التي لا طائل منها.

 

 

أهل البلد وجماعاته يحتفلون فرادى. لا مناسبة أو حدث جامعاً يتشكّلون من حوله. لكلّ جماعة تاريخها الخاصّ وسرديّتها، إنّما بشكل مُستقلّ عن الأخرى. تاريخ الجماعات وعلاقاتها مع خارج ما استعانت به على داخل هو مكوّن مثيل سيكون تاريخاً تفرضه على الآخرين. حتى في الاستقلال عن فرنسا كانت فئة تتمسّك بالانتداب لخوفها من “أثقال” الاستقلال، ولقلقها من التحوّلات التي سيتسبّب بها الاجتماع اللبناني. وهذا حصل كثيراً ومديداً.

في كلّ أزمة يلجها لبنان يتردّد على ألسنة اللبنانيين أنّها حرب الاستقلال الثاني

تواريخ كثيفة

في كلّ أزمة يلجها لبنان يتردّد على ألسنة اللبنانيين أنّها حرب الاستقلال الثاني. في عام 2000 بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي صمّ اللبنانيون آذان بعضهم بأنّ ذلك هو الاستقلال الثاني نسبةً إلى الأوّل عام 1943. حصل ذلك أيضاً بُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكانت قوّة الاستقلال الثاني مُتّكئة على قوى “14 آذار” التي كانت في مواجهة مع قوى “8 آذار”.

تكرّر أمر معزوفة الاستقلال عام 2006 بُعيد مهاجمة الحزب حدود فلسطين المحتلّة بغرض فكّ أسر لبنانيين تعتقلهم الدولة العبرية منذ القرن العشرين. آنذاك قام الحزب بأسر عنصرين من قوات إسرائيلية تتولّى صيانة وحماية الحدود بين البلدين. في حرب جرود عرسال ردّد لبنانيون كُثر المعزوفة ذاتها.

السرديّة عينها نبشها المواطنون أنفسهم وبالمعنى الميثولوجي يوم قرّر الحزب خوض معركة “أولي البأس” منذ 17 أيلول من العام الحالي، إثر سنة من إسناد غزة بُعيد عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس يوم 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023).

لم يكتب تاريخَ استقلال لبنان عام 1943 أيُّ دم أحمر قانٍ. ولم تخطّه تضحيات بذلها أهل البلد شأن دول كثيرة خرجت من هيمنة الكولونياليّات.

استقلال مُلتبس في نشأته

لم يكتب تاريخَ استقلال لبنان عام 1943 أيُّ دم أحمر قانٍ. ولم تخطّه تضحيات بذلها أهل البلد شأن دول كثيرة خرجت من هيمنة الكولونياليّات. الأرجح أنّ ذلك حصل لأنّ الوطن الوليد لا يحتمل إنشاء عداوات، بقدر ما يتكلّف من بناء الصداقات. ربّما هذا شأن جينيّ متناسل من “فينيقيّة” مُدّعاة من جانب بعض الأجداد والأهل والأبناء، فذهب أبناء الأرز لينفحوا لقب “الجسر بين الشرق والغرب” على دولتهم الجديدة في الحياة السياسية العالمية.

الأساطير المُؤسّسة للأوطان كانت ضرورة. وحدهم اللبنانيون تملّصوا من هذا “الفرض” بأثر رجعيّ. أي خاصموا الإسكندر في رواية صور، وأرتحششتا في سرديّة صيدا، وأدرجوهما بكُتب التاريخ التي لم تلقَ إجماعاً أهليّاً. عمليّاً ارتضى اللبنانيون القطع مع الماضي والاكتفاء بسيَرِهِ كي لا يحملوا ويتحمّلوا أكلاف وأعباء أيّة عداوة. وهذا سيتبدّل ليتنكّب اللبنانيون أعباء الحاضر والمستقبل.

ذهبت حكاية الاستقلال بعيداً حين استدعت العداء للدولة العثمانية. الإحالة إلى هذا التاريخ كانت عبثية. ذلك أنّه ليس للعثمانيّة وريث أو وليّ دم كي تتمّ مطالبته بأضرار الاحتلال. وليس للعثمانية عصبيّة أو متعصّب. في الأثناء ارتقوا بالأمير فخر الدين المعنيّ ليجعلوه مواطناً أوّل للبنان وينفوا جدّه بشير الشهابي. كانت الغرابة أن صار الحفيد لبنانيّاً بعد فصله عن جدّه.

إذا كانت العثمانية ملوّنة باحمرار الدم، فذلك كان في حقبة جمال باشا عام 1916

إذا كانت العثمانية ملوّنة باحمرار الدم، فذلك كان في حقبة جمال باشا عام 1916، ومن حسناته أنّه أعدم مسيحيين ومسلمين، وهو ما يعني أنّه شكّل جسراً لوطنية أهليّة ستتفكّك في لحظات أزمات البلد الكثيرة والعديدة.

على هذا التاريخ نهض “اللبنانيون الأوائل”. حتى إنّ كلمات “عدوّ” و”رجعيّة” بدت غريبة. الشيوعيون الذين يندّدون بالرأسمالية وبالحلف الأطلسي، والعروبيون الذين يستعيدون مواضي دينية عن “صدر الإسلام” وجسده النامي عبر سنوات بدوا في أوّل إطلالتهم على الحياة اللبنانية “غرباء”. غرابتهم على الحياة السياسية الوطنية، قبل أن يكونوا جوهرها لاحقاً، بسبب مفرداتهم التي اشتقّوها من قواميسهم الأيديولوجية حتى تُشكّل علامات جمع أرادوها لبناء تكتّلات أهليّة على حساب “الوطنية الأهلية” التي ما استمرّت كثيراً منذ أنشأ البطريرك الياس الحويّك لبنان الكبير حتى “الاستقلال” عام 1943.

عمليّاً رفض اللبنانيون أثقال الدم وأعباءه فأخذوا استقلالهم “المنحة” من الفرنسيين

الاستقلال المُعتلّ

عمليّاً رفض اللبنانيون أثقال الدم وأعباءه فأخذوا استقلالهم “المنحة” من الفرنسيين. المتناسلون من قبائل السان جيرمان تخلّوا عن لبنان لأنّه عبء. لم تكن بلاد الأرز تحتمل “أيّة كولونياليّة”. وعندما غادروا بقي إميل إدّه على حبّه الجارف للانتداب الفرنسي ثلاث سنوات، ثمّ ما لبث أن حوّل تشكيله إلى إطار سياسي ستشِعّ “لبنانويّته” مع الفلسطيني والإسرائيلي والسوري في أعوام لاحقة.

سيتأجّل دخول اللبنانيين حرباً أهلية لسنوات عديدة. أسباب التأخّر كانت في توقيعه على هدنة مع الكيان الإسرائيلي بعد توقيع ثلاثيّ مصر وسوريا والأردن. لكنّ هذا التأخّر سيسقط في براثن “حلف بغداد” الأميركيّ الهوى والغربي الهويّة. في هذه السنوات أغرق اللبنانيون محيطهم بحكايا العيش المشترك و”الميثاق” الموقّع من جانب الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، وفيه أنّ لبنان لن يكون ممرّاً ولا مستقرّاً لتوتير الجوار، وخصوصاً سوريا.

سقطت الخصوصية اللبنانية بإزاء دول المنطقة حتى صارت الأخيرة مُستقرّة بعد سنة 1973 وعاد لبنان إلى مربّع الاحتراب والاقتتال

لكنّ الاستقلال بقي مُعتلّاً بهواجس المسيحيين من المحيط العربي والإسلامي، وبقي مُثقلاً بقلق المسلمين من “تغريب” البلد وفصله عن محيطَيه العربي والإسلامي. وهذا سيكون من “أساسيّات” الحرب في أواسط سبعينيات القرن العشرين.

ما حمى لبنان في تلك السنين هو تشابه النظام اللبناني مع أنظمة المنطقة. استمرّ ذلك حتى صعود العسكرة في عقول كلّ أبناء جوار بلاد الأرز. عندها تمكّن لبنان من ادّعاء فرادة “النظام البرلماني” و”النظام الرأسمالي الحرّ” بمواجهة الاشتراكية والانقلابات التي مارست السياسة بثياب العسكر، في حين أنّ من تسيّد على الحياة السياسية اللبنانية هم مدنيون. مجدّداً كان لبنان على قطيعة مع الدم، لكن مُثقلاً بقلق وهواجس أبنائه بعضهم من بعض.

تشكّل القلق والهواجس من “صوفية” مسيحية تعبّدية للبنان “أرز الربّ” ووقفه، ومن تفضيل إسلامي أن يكون وطنهم منصّة تفاعلية للجوار. وهذا ما ضُبط إلى حين انفراط البلد بين تشكيلَيه الأساسيَّين اللذين استندا إلى عناصر قلق في المحيط والعالم برمّته. حينذاك بلغت الحرب أشدّها حين دارت رحاها بين المعسكرين. في المعسكر “الرأسمالي والغربي” كان المسيحيون يصفون أشقّاءهم المسلمين بأنّهم يساريون غوغائيون. ويردّ المسلمون على المسيحيين بأنّهم “انعزاليون”.

الحرب وطرد السّلم

السلم لم يؤرّخ له في لبنان “السيّد والمستقلّ والحرّ” على ما يسمّيه أبناؤه وبرقيّات الدول في ذكرى استقلاله منذ حضور الشهابية ـ الناصرية في الحياة السياسية. بقي الوطن وأهله على قلقٍ وعلى قتال. سقطت الخصوصية اللبنانية بإزاء دول المنطقة حتى صارت الأخيرة مُستقرّة بعد سنة 1973 وعاد لبنان إلى مربّع الاحتراب والاقتتال. حيناً كان الداخل يشتبك مع بعضه، وأحياناً كانت تتأجّج النيران مع الخارج حتى سلّم الجميع بأنّ لبنان صار بحاجة إلى استقلالٍ ثان. وما زالت جماعاته تحمّل بعضها بعضاً المسؤولية عن فقدان “الاستقلال” بذريعة الاستقواء بخارج ما.

إقرأ أيضاً: الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

اليوم هل نحن أمام “استقلال ثالث” عن “وصاية” إيرانية دخلها لبنان تباعاً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005؟ أم دون هذا الاستقلال الكثير من الدماء… كما كان عشيّة وغداة الاستقلال الثاني في 2005 نفسه؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما…