“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين”
حنة أرندت
ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة. فالشرّ بتداعياته وبأشكاله المختلفة قد يعادل في بعض مظاهره كلّ ما يمكن للكوارث الطبيعية وحتى الكونية أن تسبّبه. تصوّروا لو أنّ أحداً ما تسبّب باندلاع حرب نووية عالمية أو قرّر نشر فيروس قاتل لا علاج له، أو موادّ سامّة في منابع المياه، أو غيرها من الإمكانات والاحتمالات، كأن يقف معتوه ملثّم وراء صحافي ليقطع رأسه باسم العليّ القدير، أو أن يدمّر متخلّف عقليّاً مدناً بأكملها بالبراميل المتفجّرة ويخنق الأطفال بالغازات السامّة باسم المواجهة مع الإرهاب، أو أن يقدِم موهوم بأنّه ممثّل لشعب الله المختار على مسح مدن بمن فيها بحجّة أنّه يحمي شعبه المختار، أو أن يأمر مجنون بالعظمة بإبادة أجناس من البشر لمجرّد أنّه مقتنع بسموّ جنسه وبنجاسة الآخرين، أو أنّ جنسه أفضل الناس وأشرفهم!
ليس الشرّ هنا هو التافه، لكنّ التافه هو من يحاول البحث عن الخير في تسويغ أفعاله الشرّيرة، أو يسند فعله إلى قوّة عليا ماورائية أو سلطة من بشر آخرين… المخيف في الأمر هو كما أعلنت حنة أرندت في استنتاجاتها من محاكمة أدولف إيخمان أحد مجرمي المحرقة النازية، بأنّ مرتكبي الأعمال الشرّيرة ليسوا وحوشاً بطبعهم بالضرورة، فقد يكونون آباءً عطوفين أو عشّاقاً متيّمين أو حتى ممّن ينفقون مالهم على أعمال الإغاثة والخير، لكن في الوقت نفسه هم قادرون على ارتكاب أعظم الشرور لمجرد أنّهم يؤدّون وظيفة ما أو يخدمون قضية ما. لكنّ أفظع أنواع الشرور تُرتكب عادة في خدمة الأساطير.
الكافر هو من لا يخضع بالكامل لرؤيا أحدهم في شرعيّة المأكل والملبس والمظهر والعادات الاجتماعية، وبالتأكيد في الخيارات السياسية
التّكفير… و”الغويم” و”النّيغر”
هناك أيضاً نوع من الشرّ الذي ينسجه مرتكبوه على أساس الشرّ المقابل، أي مواجهة الشرّ بالشرّ كمثل القول: “قتلت لأنّ الآخر قاتل”، أو “دمّرت لأنّ الآخر دمّر….”. بالمحصّلة قد يتحوّل الشرّ بنظر هؤلاء إلى عمل مشروع ما دام تحت راية مقدّسة أو كان تنفيذاً لأوامر القائد أو من خلال نزع صفة البشر عن الضحيّة. ومن هنا، نجد في التاريخ الحديث تعابير متشابهة في معانيها، وإن اختلفت لغويّاً، وتشمل مثلاً:
- “الغويم” في العبرية. وهي ترمز إلى من هم غير يهود. وهذا ما يضعهم مباشرة في موضع أدنى من الإنسان، وبالتالي يحلّ قتلهم واستعبادهم.
- تعبير مماثل استعمله البيض في الولايات المتحدة للإشارة إلى السود وهو “نيغر” أيام التمييز العنصري ويصبّ في معنى الغويم نفسه عند اليهود.
- كذلك كان التصنيف العنصريّ لألمانيا النازية لمن هم من غير العنصر الجرماني.
- والتصنيف الياباني الإمبراطوري لباقي شعوب آسيا قبيل الحرب العالمية الثانية.
- وتصنيف الأحزاب السياسية الشمولية من يمين ويسار للبشر الذين يؤلّهون الزعيم الأوحد للحزب.
- من ضمن كلّ التعابير يعود اليوم ليبرز تعبير “الكافر”. وهو تعبير نسبي لا علاقة له بمسألة الإيمان. بل هو وصف يطلقه البعض على مَن لا يمارس نوعاً محدّداً من الشعائر الظاهرة للعيان بغضّ النظر عن الإيمان الذي لا يمكن قياسه بشكل ملموس.
ببساطة، فإنّ الكافر هو من لا يخضع بالكامل لرؤيا أحدهم في شرعيّة المأكل والملبس والمظهر والعادات الاجتماعية، وبالتأكيد في الخيارات السياسية. هذا يعني أنّ ألفاظ “غويم” و”نيغر” و”كافر” و”فاقد الحسّ القومي” أو “خائن”… كلّها تصبح متشابهة في معانيها، وكلّها تسعى إلى إسقاط صفة البشر عن المعارضين، وبالتالي شرعنة إلغائهم بمختلف الطرق، أقلّها الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، مروراً بالنفي والسجن، وصولاً إلى قطع الرؤوس والاغتيال بالمتفجّرات والبراميل المتفجّرة والغازات السامّة وحتى القذائف الموجّهة بأعلى التقنيّات. كلّها تسويغات تافهة وحجج تافهة لأشخاص تافهين هدفها شرعنة الشرّ تحت راية الخير.
لم يتمكّن أحد من إيجاد خصومة شخصية بين عصابة المتّهمين الإجرامية ورفيق الحريري
قاتل رفيق الحريري
لكلّ ما سبق تلقّيت بحيادية كاملة خبر مقتل الأداة المدانة باغتيال رفيق الحريري. كما كانت ردّة فعلي يوم قُتلت أدوات أخرى من قبله، أكان في هذه الجريمة بالذات أم في جرائم أخرى. كما أنّني استهجنت الفرضيّات الشامتة أو التي تعتبر أنّ عدالة السماء قد تحقّقت. فلا الشماتة تشفي ولا يمكن التكهّن بكيفية تحقّق عدالة السماء. في جرائم من هذا النوع يأتي مقتل الأداة ليخفي معالم الجريمة وتجهيل الفاعل الأساسي. فلا يعقل أنّ تافهاً ما قرّر أن ينصب متفجّرات على طريق يسلكها البشر كلّ يوم، لمجرّد أنّ لديه ثأراً شخصياً مع رفيق الحريري.
ما هو منطقي هو أنّ هذه الجريمة ذات طابع سياسي واضح، وأتت في إطار متغيّرات سياسية كبيرة في المنطقة. ولا يمكن، في ظلّ كلّ تلك المعطيات، رفض طرح مسألة المؤامرة الخبيثة من قبل الصهيونية أو غيرها في سبيل إثارة الفوضى. في كلّ الأحوال، فإنّ الاتّهامات في بداية التحقيق حيّدت الحزب. كما أنّ سيناريو أبو عدس السخيف تمّ تحضيره لاتّهام التطرّف السنّي، أي أعداء الحزب نظريّاً. ثمّ أتى سيناريو بائس آخر لاتّهام نظام بشار الأسد لوحده وتحييد الحزب. لكن، في أيّة جريمة، على التحقيق أن يعود دائماً إلى ساحتها من خلال الأدلّة الثبوتية.
قد تكون الصدفة هي التي أوصلت إلى طرف الخيط بالاتّصالات، ومن ثَمَّ إنشاء المحكمة الدولية التي وصلت إلى إدانة المتّهمين، الذين تبيّن أنّهم من كوادر الحزب.
إقرأ أيضاً: نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!
لم يتمكّن أحد من إيجاد خصومة شخصية بين عصابة المتّهمين الإجرامية ورفيق الحريري. وهو ما يعني أنّ تلك العصابة كانت أدوات للتنفيذ. كما أنّ الأمور اللوجستية المرتبطة بدقّة تنفيذ الجريمة وحجم الانفجار والموادّ المستعملة والسيّارة التي حملتها وأين وكيف تمّ شراؤها، كلّها دفعت إلى القناعة بأنّ القضية لا يمكن حصرها بتلك العصابة الإجرامية. لكنّ قانون المحكمة المحدّد من قبل مجلس الأمن الدولي منع المحكمة من الاستنتاج بخصوص تراتبية الأوامر التي تصل إلى سلطات أعلى.
لمتابعة الكاتب على X: