خلُص “مؤتمر النقد السينمائي” الذي اختُتمت دورته الثانية في الرياض تحت عنوان “الصوت في السينما”، إلى أنّ النقد السينمائي ولِد مع ولادة السينما، ومرّ بمراحل مختلفة، تغيّرت بحسب الوسائل التعبيرية المتاحة للبشر. فهو ليس علماً له معايير دقيقة وليس عملية حسابية، بل هو معرفة عامّة وفهم لمجموعة عناصر أساسية يختلط في تحليلها الشخصيّ بالعامّ.
لكنّ عالم النقد الذي يعتبر عموداً أساسياً في تطوّر السينما واستمراريّتها، والذي يعتبره البعض بمنزلة سلطة رابعة، لا يزال يعاني في المنطقة العربية من مشكلات جمّة، بحثها المؤتمر الذي تنظّمه “هيئة الأفلام السعودية”. من هنا تأتي فكرة تنظيم هذه التظاهرة الفريدة من نوعها بشهادة مخرجين ونقّاد وصانعي أفلام ومنتجين، لتنمّ عن رؤية ووعي في هيئة الأفلام لأهميّة النقد في نشر ثقافة سينمائية راسخة لدى الجمهور، وفي إعلاء شأن الصناعة السينمائية المستقبلية خصوصاً في المملكة.
وسائل حديثة وأصوات جديدة
“عزّزت وسائل التواصل في السنوات الأخيرة دور النقد الجماهيري، وبرزت أصوات جمهور جديد شابّ لديه القدرة على النقاش والنقد والكتابة عن السينما بلغة جديدة مختلفة، وأحياناً تتفوّق على ما كان يكتبه نقّاد الصحف التقليدية”، يقول الناقد اللبناني إبراهيم العريس. فلم تعد الكتابة عن السينما محصورة بالنقّاد الأكاديميين أو الصحافيين، بل هي متاحة لكلّ من لديه رأي وشغف ويتابع فيلماً سينمائياً من دون أيّ خلفيّات. ومثل هذه الكتابات “تقدّم فهماً أفضل للفن”، بحسب المخرج المصري خيري بشارة. فيما يستخفّ كثيرون بدور النقد حالياً، ويعتبر البعض أنّه تحوّل عبر “يوتيوب” والسوشيل ميديا إلى ترويج تجاري يتقاضى صاحبه أجر كلماته من المنتجين وصنّاع الأفلام، وتتكاثر ثروته مع كلّ “لايك” وتعليق.
في حديثه لـ “أساس”، قال خيري بشارة الذي شارك في أهمّ المهرجانات في العالم إنّ “من النادر جدّاً تخصيص محاضرة عن النقد أو حتى تخصيص مؤتمر له، إذ اعتدنا أن تخصّص التظاهرات السينمائية لعرض الأفلام وصناعتها وكيفية الحصول على تمويل وطرح قضايا التوزيع والإنتاج التي لا تنتهي”.
عن الانفتاح الحاصل في قطاع الثقافة والفنون في السعودية، قال الفوزان المعروف كمنتج في مصر منذ 1984: ثمّة حلم مستحيل قد تحقّق
صالح الفوزان: لا سينما من دون نقد
لفت المنتج وكاتب السيناريو السعودي صالح الفوزان في حديث لـ”أساس” إلى أنّ عدم انعقاد أيّ مؤتمر مخصّص للنقد في العالم العربي، قبل أن تنظّمه هيئة الأفلام، يعود إلى أنّ حقوق النقّاد مهدورة في المنطقة، خصوصاً بعدما صارت صفحات “السوشيل ميديا” منصّة مفتوحة لكلّ شيء، سواء لمن يريد الكتابة عن الأفلام كهاوٍ أو كمروّج أو أصحاب العلاقات العامة تحت خانة “ناقد”. كما أنّها منصّات للنجوم السينمائيين أنفسهم وشركات الإنتاج، وكأنّ السينما لم تعد بحاجة للنقّاد، وهذا خطأ كبير.
أضاف: “لكنّ المؤتمر هو نواة لتجمّع النقّاد الكبار مثل إبراهيم العريس وكمال رمزي وأحمد شوقي، ولاستفادة النقّاد الشباب من خبراتهم وتجاربهم، فأنا كان لي الحظّ أن أعاشر هؤلاء، إضافة إلى سمير فريد وعلي أبو شادي وأحمد الحضري. فالنقّاد المثقّفون والمطّلعون على أنواع سينمائية متنوّعة هم غنى للسينمائي، والحوار والنقاش معهم يخلق لغة جديدة وعين ثالثة في السينما، خصوصاً إذا كنّا نسمع ونقبل النقد”.
قال أيضاً: “أنا ممّن يصغي للنقد البنّاء ويحاول التجديد والتطوير، بل أطلب رأي بعض النقّاد في نصوصي قبل إخراجها. فالانسان من دون أن يدرك سلبيّاته يعتبر ناقصاً”. وقال ممازحاً: “إذا لم أجد من ينتقدني أجلس مقابل المرآة وأنتقد نفسي”!
لكنّ الفوزان يعتب على غالبيّة النقّاد العرب، “لأنّهم يحكون حكاية الفيلم كلّها فيحرقونه ويُفسدون على المشاهد الاستمتاع بالأحداث ومتعة التشويق. نحن نحتاج في النقد إلى تفكيك العمل، بدءاً من العنوان والفكرة وصولاً إلى الإخراج والسيناريو والصوت والإضاءة والتصوير والتنفيذ والأزياء والماكياج وكلّ تفاصيل العمل”.
عالم النقد الذي يعتبر عموداً أساسياً في تطوّر السينما واستمراريّتها، لا يزال يعاني في المنطقة العربية من مشكلات جمّة
عمليّة اكتشاف ومعرفة
في ندوة أو “ماستر كلاس” تحت عنوان “خمسون عاماً من النقد”، قال كمال رمزي، وهو أحد كبار وروّاد النقّاد المصريين، إنّ “النقد صار بمنزلة نافذة على فهم أعمق للعالم من خلال السينما، فهو ليس فقط عن متعة المشاهدة أو الاستمتاع بالجماليّات، بل هو أيضاً وسيلة لتفكيك الأفكار والمفاهيم التي يعرضها الفيلم”. واعتبر أنّ “النقد هو رحلة مستمرّة في اكتشاف الجوانب الفنّية والإنسانية في الأفلام، وفي تعميق فهمنا للأعمال الفنّية بطريقة تتجاوز المتعة البصرية”.
تميّز رمزي بكونه أكثر من ناقد هاوٍ وأقلّ من ناقد محترف، وأكّد أنّ “النقّاد المتعمّقين يسعون إلى فهم الأسباب الكامنة خلف مشاهد محدّدة، ويطرحون أسئلة مثل: لماذا اختار المخرج هذه الزاوية أو هذا الإيقاع؟ وما الرسالة التي يحاول إيصالها؟”. ورأى أنّ “الناقد السينمائي الحقيقي هو من ينظر بعمق إلى التفاصيل، ويقدّم للمشاهدين فهماً أوسع، ويشجّعهم على التفكير والتساؤل، ليُصبح النقد شريكاً أساسياً في التجربة السينمائية، إذ يحوّل المشاهدة من مجرّد نشاط ترفيهي إلى عملية استكشاف ومعرفة”.
أداة فكريّة
كان الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام السعودية عبدالله بن ناصر القحطاني، أكّد خلال كلمة ألقاها في المؤتمر أنّ “الهيئة تولي اهتماماً كبيراً بتأسيسِ وتطويرِ واستدامةِ قطاع أفلام قويّ وحيويّ، وذلك انطلاقاً من رؤية السعودية 2030. إضافةً إلى تمكين النقد كأداة فكرية وفنّية تنير طريق السينما، وتفتحُ نوافذ جديدة لها”. أضاف: “من هذا المنطلق جاء هذا المؤتمر ليكون منصّةً تجمع بين النقّاد والمبدعين، وتتيح لهم فرصةَ تبادل الأفكار والخبرات، وصولاً إلى تشكيل وعي سينمائيٍ عربيٍ أعمقَ ينقلنا نحو آفاقٍ عالمية، دون أن نتخلّى فيه عن أصالتنا وهويّتنا”.
لم تعد الكتابة عن السينما محصورة بالنقّاد الأكاديميين أو الصحافيين، بل هي متاحة لكلّ من لديه رأي وشغف ويتابع فيلماً سينمائياً من دون أيّ خلفيّات
نبض السّينما السّعوديّة… حلم تحقّق
عن الانفتاح الحاصل في قطاع الثقافة والفنون في السعودية والإنتاج السعودي المتنامي، قال الفوزان المعروف كمنتج في مصر منذ 1984: ثمّة حلم مستحيل قد تحقّق. كنت أحلم بهذا الانفتاح وهذه الحرّية ولم أكن أعتقد أنّه سيتحقّق”. وروى أنّه “في عام 2000 كنّا نُكرّم في مهرجان نانت في فرنسا برفقة مخرجين عرب، مثل اللبناني جورج نصر والسوري نبيل المالح والكويتي خالد الصدّيق والبحريني بسام الزوادي وأنا وعبدالله المحيسن وخالد السجالي من السعودية، وما يقارب 25 مخرجاً، وإذ تدخل علينا مخرجة أوروبية تريدنا محاورة طالباتها اليافعات العشرين في مدرسة السينما في أبوظبي.
إقرأ أيضاً: “الصّوت في السينما السعودية” شخصية تبدأ في النصّ..
عندها أصابني نوع من الغشاوة وسرحت، وكنت أسأل نفسي: هل ممكن رؤية هذا المشهد في بلدي ومع فتيات سعوديات يدرسن السينما في المملكة؟ والآن تحقّق هذا الحلم وترين بأمّ عينك ذلك هنا”.
لمتابعة الكاتب على X: