الأردن: بين “الوطن البديل”.. والحصار الإيرانيّ

مدة القراءة 9 د

عمّان

قبل التطوّرات الأخيرة في لبنان، وموجة الاغتيالات وبدء العدوان الإسرائيلي، قام الزميل أمين قمّورية بجولة في الأردن للوقوف على حجم التغييرات والتحدّيات التي يواجهها الأردن، والهجمة الإيرانية والإسرائيلية عليه، ولمحاولة فهم إلى أين يتّجه الأردن.

في الحلقة الأولى، أسئلة حول نغمة أنّ الأردن هو “الوطن البديل” للفلسطينيين. وهي نغمة تكرّرت وأُعيد تداولها على نطاق واسع بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فأثارت استياء النخب الأردنية على المستويَين الشعبي والرسمي من أسفل الهرم حتى أعلاه.

تعزّز مخاوفَ الأردنيين من عقدة جعل بلادهم “الوطن البديل” عن فلسطين التي يريدها اليمين الإسرائيلي كلّها، من البحر إلى النهر، نظريّاتٌ صهيونية قديمة كان قد أطلقها الإنكليز وروّجوا لها وغذّوها. وهي تقول إنّ فلسطين “أرض بلا شعب” ويجب أن تكون لـ”شعب بلا أرض” هو الشعب الإسرائيلي. ترافق هذه المقولة مقولة أشدّ خطورة بأنّ الأردن هو “أرض بدو من دون تاريخ ولا حضارة”. وهو ما يتيح لصاحب المقولتين العدوانيّتين القول إنّ هذه الأرض “ليست وطناً” وتصلح أن تكون منطقة سكن للمهجّرين واللاجئين بعد رسم الخرائط وتفتيت المجتمعات القائمة.

انطلاقاً من هذه المقولات اعتبر بعض المنظّرين والمخطّطين الإسرائيليين أنّ التقسيم الذي قام عليه الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن الماضي هو السند، وكان جرى على أساس دولتين تقوم كلّ منهما على ضفّة من ضفّتي نهر الأردن. وتالياً فإنّ “الأردن هو فلسطين من لحظة إنشائه… و65 في المئة من سكّانه هم فلسطينيون. وفيه يمكن توطين اللاجئين في يهودا والسامرة (الضفّة الغربية) وغزّة وسوريا ولبنان، ويمكن لاستثمارات ضخمة أن تيسّر ذلك، وتوفّر حلّاً لمشكلتهم”، بحسب الرواية الإسرائيلية.

اعتبر بعض المنظّرين والمخطّطين الإسرائيليين أنّ التقسيم الذي قام عليه الانتداب البريطاني هو السند، وكان جرى على أساس دولتين تقوم كلّ منهما على ضفّة من ضفّتي نهر الأردن

حضارة الأردن “ما قبل التّاريخ”

بالنسبة للأردنيين والفلسطينيين معاً، الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين. ولا يمكن أن يكون الأوّل بديلاً عن الثانية ولا يمكن للثانية أن تلغي الأوّل. ومثلما فلسطين للشعب الفلسطيني، الأردن هو لشعب أردني أصيل “أخرج الحضارة إلى العالم قبل مصر والعراق، وأنتج أوّل رغيف خبز وبنى أوّل سدّ في التاريخ. وكان أوّل من اكتشف البعد الثالث من خلال تماثيل عين غزال، وعليه لا يمكن تجهيل الشعب الأردني بتاريخه وحضارته العريقة”، على ما يقول المؤرّخ ونقيب الجيولوجيين الأردنيين الدكتور جورج حدادين. ويضيف أنّ “أرض الأردن مأهولة ومعمورة منذ أكثر من خمسمئة ألف سنة قبل الميلاد. وعليها بدأت أولى التجمّعات السكّانية وأنشئت أولى المجتمعات الزراعية ومورست أولى الطقوس الدينية في العالم بأكمله”.

يشدّد حدادين على أن “لا أحد يمكن أن يتجاهل المملكة الأردنية الغسّانية والمملكة النبطية الأردنية لقرون عدّة. إضافة إلى ممالك أخرى عدّة كالأدوميّة والعمونيّة والمؤابيّة. وعلى الرغم من أنّ هذه الممالك فقدت في مرحلة ما وجودها ككيان سياسي وسلطة إلا أنّ الوجود السكّاني لهذه الممالك لم يختفِ. فالأدوميون مثلاً لم يرتحلوا عن الأرض الأردنية على الرغم من تولّي الأردنيين الأنباط للسلطة السياسية. والأنباط أنفسهم لم يغادروا أرضهم على الرغم من السيطرة الرومانية على الطرق التجارية. كذلك القبائل الأردنية في البادية الشرقية، ومنها اليوم العشائر الأردنية الكبيرة”.

بالنسبة للأردنيين والفلسطينيين معاً، الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين. ولا يمكن أن يكون الأوّل بديلاً عن الثانية ولا يمكن للثانية أن تلغي الأوّل

3 شرعيّات لوجود الأردن

على الرغم من النكبة في فلسطين وتهجير أعداد كبيرة من أبنائها إلى الضفّة الشرقية حيث باتوا يشكّلون نسبة عالية من السكان، لا سيما في المدن الكبرى مثل عمّان والزرقا، وعلى الرغم من التوتّرات بين المقيمين واللاجئين التي كانت ذروتها أحداث أيلول 1968، فإنّ الأردن تمكّن من تثبيت مثلّث التوازن داخل الدولة المتمثّل في العلاقة الأردنية الفلسطينية وعلاقة الشعب بنظام الحكم. ونجح في الحيلولة دون تفكيكها وإفقاد الجميع شرعية الوجود خارج معادلتها.

يقوم هذا التوازن على ثلاث شرعيّات:

  • شرعية الشعب الأردني غير المشروطة باعتباره صاحب الأرض ومالك الوطن التاريخي قبل النكبة الفلسطينية.
  • شرعية نظام الحكم المرتكز على عقد التأسيس بين الملك المؤسّس عبد الله الأوّل بن الحسين مع الشعب الأردني، والقائم على حماية الأردن من الخطر الصهيوني ودعم الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه.
  • الشرعية الفلسطينية التي تأسّست بتعاقد واضح بين الأردنيين والفلسطينيين على العيش بكامل الحقوق مقابل الشراكة في بناء الوطن الأردني والتمسّك في المقابل بحقّ العودة إلى فلسطين والنضال من أجله.

تمكّن الأردن من تثبيت مثلّث التوازن داخل الدولة المتمثّل في العلاقة الأردنية الفلسطينية وعلاقة الشعب بنظام الحكم

نظرت إسرائيل على الدوام إلى الأردن كنوع من الفرصة والخطر في الوقت ذاته. فهي:

  • من جهة “دولة عازلة” والسلام معها يخرجها من دائرة الصراع، ولا سيما أنّها صاحبة أكبر حدود مع الأرض المحتلّة وتعتبر خاصرتها الرخوة أمنيّاً للتداخل الكبير بين جانبَي الحدود. ومن شأن السلام أيضاً أن يحول دون انتشار قوات عربية على أراضيها في مواجهة مسلّحة مع إسرائيل.
  • ومن جهة أخرى يثير المستوى العالي من العداء الشعبي للاحتلال فيها قلق تل أبيب، الأمر الذي جعل الهواجس المضطربة تشغل بال صنّاع السياسة الإسرائيلية. لذا حاولت إسرائيل منذ “معاهدة وادي عربة” تعزيز تموضعها الاقتصادي والسياسي والأمنيّ والإعلامي في الأردن، أو ما يسمّى بسياسة “الاختراق الناعمة” على حدّ تعبير رئيس اتّحاد الكتّاب الأردنيين الدكتور موفق محادين. وعندما لا يؤدّي هذا الاختراق غرضه كانت ترفع عصا التهديد بأشكال مختلفة عبر التلويح بالفزّاعات لإخافة الأردن، ومنها التهديد بتحويل الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين، والتلويح بقدرتها على كسر مثلّث التوازن بين أضلاع العلاقة بين القصر والشعب الأردني والعلاقة الأردنية الفلسطينية، والاستعداد لدخول معركة تفكيك الأردن.

شدّ وإرخاء… بين تل أبيب وعمّان

في مناسبات مختلفة هدّدت إسرائيل تارة بإهداء الأردن وطناً للفلسطينيين، وتارة أخرى بأن الملك عبد الله الثاني سيكون آخر الملوك الهاشميين، أو بتحويل البلد إلى نظام ملكي دستوري، وتحديد الأغلبية والأقلّية في هذه البنية في مسعى ليكون ذلك مدخلاً لحلّ القضية الفلسطينية أرضاً وشعباً على حساب الأردن. وبين الحين والآخر تذكّر إسرائيل بالنغمة القديمة التي تصف الأردنيين بأنّهم “ليسوا شعباً بقدر ما هم مجموعة من البدو”، وأنّهم “يسعون لذبح الشعب الفلسطيني، أو القيام بتطهير عرقي للفلسطينيين”.

يجد الأردن نفسه بين “فكّي كمّاشة” إقليمياً، بين الجنون اليميني الإسرائيلي والحشد العسكري النسبي لـ”محور المقاومة” بقيادة إيران على الحدود العراقية والسورية من أجل مواجهة إسرائيل

تصطلح الأمور بين عمّان وتل أبيب ولا تلبث أن تتضعضع. صعود وهبوط متواصلان في العلاقة المتوتّرة بلغا ذروتهما في العدوان الإسرائيلي على غزة. أوصلت حكومة اليمين المتطرّف برئاسة بنيامين نتنياهو الأمور إلى مستوى جديد. وتحت غطاء حملتها العسكرية المدمّرة في قطاع غزّة، اتّخذت الحكومة خطوات غير مسبوقة لتعزيز قبضتها على الضفّة الغربية من خلال سياسات الضمّ والاستيطان والتهويد. وتسبّبت بأكثر عامين دمويّةً بالنسبة إلى الفلسطينيين منذ عقود، ودفعت السلطة الفلسطينية إلى حافة الانهيار. وألقى المستوطنون الصهاينة منشورات في قرى الضفة الغربية تحذّر السكّان وتدعوهم إلى الهرب نحو الأردن أو مواجهة الطرد الجماعي أو الموت.

خلقت هذه الأحداث مخاوف من إحياء خيار “الأردن هو فلسطين”. أمّا العناصر المتطرّفة، التي تدعو إلى تدمير الحرم الشريف في القدس وبناء “الهيكل الثالث” في مكانه، فقد انتقلت من هامش السياسة الإسرائيلية الى قلب السلطة وصارت الصوت الأعلى في الحكومة الحالية. وبما أنّ الملك عبد الله الثاني هو الوصيّ على الأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية في القدس، تشكّل هذه المخطّطات استفزازات للأردن والعرب والمسلمين. كما أنّها تضع عمّان في موقف متوتّر وصعب.

تصطلح الأمور بين عمّان وتل أبيب ولا تلبث أن تتضعضع. صعود وهبوط متواصلان في العلاقة المتوتّرة بلغا ذروتهما في العدوان الإسرائيلي على غزة

إيران تحاصر الأردن أيضاً

في الوقت نفسه، يجد الأردن نفسه بين “فكّي كمّاشة” إقليمياً، بين الجنون اليميني الإسرائيلي والحشد العسكري النسبي لـ”محور المقاومة” بقيادة إيران على الحدود العراقية والسورية من أجل مواجهة إسرائيل. وباعتباره حليفاً وثيقاً للولايات المتّحدة ولديه علاقات قديمة مع إسرائيل، يخاطر الأردن بالوقوع في مرمى النيران المُتبادلة بين الجهتين.

بالفعل بلغ الإحراج مستواه الأعلى عندما استخدمت القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية قواعدها العسكرية المنتشرة في المثلّث الحدودي الأردني العراقي السعودي لإحباط الهجمات على إسرائيل التي شنّتها إيران ردّاً على هجوم إسرائيل على السفارة الإيرانية في دمشق، في حين امتنعت هذه القواعد عن اعتراض الصواريخ والطائرات الإسرائيلية عندما عبرت الأجواء الأردنية لضرب مواقع إيرانية.

إقرأ أيضاً: … وتعود الكرة إلى ملعب “أبو مازن”

هذا ما جعل وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي يتوجّه إلى طهران للحدّ من التوتّرات ومحاولة النأي بالأردن عن الصراع الدائر، لا سيما بعدما أعلنت فصائل الحشد الشعبي العراقية خططاً لتجنيد 12 ألف مقاتل داخل الأردن وتسليحهم استعداداً لمواجهة أوسع مع إسرائيل. كما استخدمت الأراضي السورية لتهريب الأسلحة والمخدّرات غير المشروعة. لكنّ المحادثات مع طهران لم تثمر كثيراً، ذلك أنّ الوعود شيء والعمل على الأرض شيء آخر، على ما يقول عضو مجلس الأعيان جميل نمري.

فكيف تتعامل عمّان مع هذه الأحجية السياسية المعقّدة؟ وما الذي تفعله للخروج من هذه المتاهة الملتهبة؟ وهل في إمكانها تجنّب التداعيات الصعبة لذلك؟

في الحلقة الثانية:

الإسلاميون في البرلمان… والسلطة في القصر

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…