يختلف الشيخ نعيم قاسم عن سلفه السيّد حسن نصر الله، من حيث خصائص الشخصية ومشارب التنشئة، مع أنّ كليهما كانا عضوين قياديين في حركة أمل، قبل الانشقاق عنها، وتأسيس ما عُرف بـ”الحزب”. يتميّز قاسم بشخصية هادئة، غير شعبوية، لكن متمرّسة لسنوات طويلة في التربية والتعليم والوعظ والإرشاد، فيما اشتُهر نصر الله بعد تسلّم موقع الأمين العام للحزب، عقب اغتيال السيّد عباس الموسوي في غارة إسرائيلية عام 1992، بطلّاته المميّزة على الجمهور المتطلّع إلى قيادة واعدة، وبخطاباته العالية النبرة التي تُشعر أنصاره بالقوة بإزاء المُخالفين لسياسات الحزب، كما في وجه العدو المتربّص خلف الحدود الجنوبية، والقادر على استمالة الجماهير، وتشكيل الرأي العام، وإعادة صياغة سردية الأحداث، مرة بعد أخرى، فتسري سريان النار في الهشيم.
كان نصر الله لمن رآه وعاصره في بداياته لدى تسلّمه الأمانة العامة، شبيهَ نعيم قاسم اليوم؛ صاحب شخصية هادئة ومتحفّظة، قبل أن تتبلور ميزاته الكاريزماتية، مع قدرات تعبوية استثنائية. وإذا كان الأمين العام السابق، قد عُرف بقربه من صنّاع القرار في إيران، فإن الأمين العام الحالي، متنوّع التجارب، بين الاتجاهات المختلفة، السنية والشيعية. لكن لن تكون مهمة نعيم قاسم سهلة، وهو كان ظلاً لسلفه، ممسكاً بالملف السياسي الداخلي، وغير متصدّر للمشهد الجماهيري. والسؤال كان دائماً عن سبب مكوثه الدائم في منصب النائب، وعدم ترداد اسمه إطلاقاً كمرشح لتسنّم المكان الأول في الحزب، عند أيّ طارئ، كما حدث أخيراً. فما هي مميّزات شخصية الأمين العام الجديد، وقد وجد نفسه فجأة في مقدّمة الصفوف، في لحظة فاصلة؟
أماكن وأزمان متعدّدة
المكان: حسينية المصيطبة. الزمان: مساء أحد الأيام نهلية سبعينات القرن الماضي. المناسبة: درس ديني يُلقيه شاب غير معمّم، ذو نظّارتان. ويتحلّق حوله عدد كبير من الشباب الشيعة المتديّنين ممن ينتمون إلى حركة أمل غالباً.
على الرغم من انضمامه إلى حزب الدعوة، إلا أنه كان حريصاً على انفتاح الحزب، لا على تقوقعه المذهبي
كان هذا الشاب النحيل، يفسّر الآيات القرآنية، ويستشهد بالأحاديث النبوية، وآثار أئمة آل البيت، وتتخلّل كلماته المنتقاة بعناية، قصص واقعية من حياة المجتمع. كان ذلك لقائي الأول، بالداعية الشاب نعيم قاسم، ولم أكن قد سمعتُ به من قبل. كان الموقف مدهشاً بالنسبة لي، ليس لِما سمعتُه في درس قاسم، بل لأنه بدا مألوفاً جداً لي بدرجة غريبة. في تلك الجلسة، شعرتُ كأني في عالم موازٍ، شبه خيالي. فالشاب المتكلّم، كان يشبه شاباً آخر في مسجد سني آخر، كنت أرتاده في المنطقة نفسها، كأنه هو، في الشكل، والأسلوب، وحتى باقتباسه القصص الاجتماعية، بل روح النكتة التي تميّز الشابين معاً، لأجل تلطيف الجو، وإبعاد الملل عن المستمعين. ولا يختلفان في شيء، إلا في رواية الأحاديث النبوية، فلكلٍّ مصادره التي يستشهد بها، لكنها تحمل المعنى نفسه. حضوري مجلس نعيم قاسم آنذاك، كان نوعاً من التحدّي بيني وصديقي الشيعي، الذي تعرّفت إليه في المسجد السني الذي لا يبعد عن الحسينية إلا بضعة شوارع فقط.
في يوم من الأيام، قال لي: “نحن الشيعة أفضل منكم”. سألتُه، فأجابني: “لأننا نصلّي في مساجدكم، ولا تصلّون في حسينياتنا”. فقلت له: أنا مستعد للمجيء إلى الحسينية، وحضور الدرس الذي أخبرتَني عنه. وهكذا كان. أما سبب هذا التحدّي بيننا، فهو أنّ بعض المصلين الشيعة في المسجد السني، وكانوا يرتادونه دائماً، لمَحوه وهو يحضر معي الدروس هناك، فحاولوا ثنيه عن المشاركة و”هدايته” إلى الطريق المستقيم.
علمتُ فيما بعد أنّ نعيم قاسم، كان من الشباب الأوائل في مسجدنا، وكان صاحب حلقة يدرّس فيها القرآن، وكان يصطحب الفتيان في رحلات تربوية وترفيهية. والمسجد آنذاك، ينشط بالدعوة وفق التوجه الصوفي النقشبندي التربوي المتخفّف من بعض شكلياته، ليكون أكثر جاذبية للشباب. وبالفعل، انضمّ إلى هذا الاتجاه التربوي عدد من الشبان الشيعة في منطقة المصيطبة، المختلطة مذهبياً واجتماعياً، مع خلوّ الساحة الشيعية آنذاك من العمل الدعوي المنظّم.
شارك في تأسيس الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين في أوائل السبعينات، حين كان طالب الكيمياء في دار المعلمين، وكان هذا الكيان مدعوماً من كلّ الشخصيات الشيعية العاملة في ذلك الوقت
المفارقة في حكاية نعيم قاسم بين المسجد (السني) والحسينية (الشيعية)، أنّ شباباً شيعة آخرين، ممن سيُعرفون لاحقاً بـ”الحزب”، كانوا يصلّون في المسجد السني، لا في الحسينية التي كان إمامها السيّد أحمد زكي تفاحة (توفي عام 2023)، والذي كان من مؤسسي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كما جاء في بيان النعي الصادر عن المجلس. وكان هؤلاء من المتأثرين مبكراً بالثورة الخمينية، والمعروفين بهندامهم المميّز، والقمصان المقفلة الأزرار حتى العنق، والمُسدلة دائماً فوق البنطال، شبه نازحين من الحسينية القريبة، ويدأبون على الصلاة في مسجد السُّنة. كانوا فعلاً فئة هامشية ومستضعَفة، إبّان الموجة الطاغية لحركة أمل، وكانوا يعتبرون المسجد السني ملاذهم الآمن نفسياً.
في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كان الشيعة عموماً يفتقدون إلى القائد وإلى البرنامج. فمنهم من بحث عن مبتغاه، في حركات سنية سياسية ودينية، مثل حزب التحرير، والجماعة الإسلامية، وجماعة عبد الله الحبشي (توفي عام 2008). وما زال بعض هؤلاء في الجماعات نفسها، وفي مواقع متقدّمة نظراً لأسبقيتهم. ولم يكن التأثّر بالأدبيات الحركية الإسلامية مقتصراً على لبنان، بل إنّ حزب الدعوة الإسلامية، الحزب الشيعي الأول من نوعه في العراق، والذي تأسس عام 1957، والسيد محمد باقر الصدر (أُعدم عام 1980)، من أبرز المؤسسين له، لم يكن بعيداً أيضاً عن مؤثرات حركية سنية. حتى إنّ الرجل الأول فيه حتى عام 1981، وهو المهندس محمد هادي السبيتي (توفي في السجن عام 1988)، كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، ثم قيادياً في حزب التحرير الذي أسسه القاضي الفلسطيني تقي الدين النبهاني (توفي عام 1977).
المفارقة في حكاية نعيم قاسم بين المسجد (السني) والحسينية (الشيعية)، أنّ شباباً شيعة آخرين، ممن سيُعرفون لاحقاً بـ”الحزب”
على الرغم من انضمامه إلى حزب الدعوة، إلا أنه كان حريصاً على انفتاح الحزب، لا على تقوقعه المذهبي. والإشارة إلى عوامل التأثر الشيعي الحركي بأدبيات الحركات السياسية السنية وتنظيماتها، ذات دلالة في محاولة تشخيص التنوّع الفكري وتعدّد التجارب وتلاقحها بين الشيعة والسنة الحركيين، ما دام موضوع البحث هنا، هو الشيخ نعيم قاسم، الذي بدأ حياته الإسلامية، في اتجاه تربوي صوفي سني، لا يتعاطى الشأن السياسي، وذلك لسنوات قليلة، قبل أن تستميله السياسة ويتدرّج في نهج فكري وسياسي، شيعي دعوي، نسبة إلى فكر حزب الدعوة، والعمل تحت قيادة السيّد موسى الصدر المحلّي التوجه، وانتهى به الأمر من أشدّ المناصرين لولاية الفقيه ذات البُعد العالمي.
كان قاسم قد تأثر بشخصية السيّد موسى الصدر (غُيّب عام 1978)، الذي لا يُعرف عنه قربه من حزب الدعوة ولا من جماعة ولاية الفقيه. وتمكّن الصدر من اجتذاب عدد من الشيعة المنتمين إلى الجماعات والحركات السنية، أو المنتسبين إلى الأحزاب والقوى القومية والعلمانية، فأضحوا نواة حركة المحرومين، ثم أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) التي أُعلن عن تأسيسها عام 1974. ويشير نعيم قاسم في كتابه المرجعي عن الحزب، والصادر عام 2002، تحت عنوان حزب الله المنهج..التجربة..المستقبل (لبنان ومقاومته في الواجهة)، إلى أدوار ثلاثة علماء شيعة منذ النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، في تجديد الحالة الشيعية أو إعادة تشكيلها أصولياً؛ وهم: السيّد موسى الصدر، الذي انجذب لقيادته، الوالسيّد محمد حسين فضل الله (توفي عام 2010) الذي درس على يديه بحث الخارج في الفقه والأصول، والشيخ محمد مهدي شمس الدين (توفي عام 2001)، الذي عاصره نائباً للإمام الصدر، وقائماً بأعمال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وهو كان يقتبس من هؤلاء، ويتعلّم، قبل أن ينبهر بالإمام الخميني (توفي عام 1989)، ويصبح من أتباع ولاية الفقيه، ومن مؤسسي حزب الله في لبنان.
يختلف الشيخ نعيم قاسم عن سلفه السيّد حسن نصر الله، من حيث خصائص الشخصية ومشارب التنشئة
الرجل الثاني في الحزب
شارك في تأسيس الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين في أوائل السبعينات، حين كان طالب الكيمياء في دار المعلمين، وكان هذا الكيان مدعوماً من كلّ الشخصيات الشيعية العاملة في ذلك الوقت. وله أدوار طليعية مهمة، من تأسيس اللجان الإسلامية، والمراكز والمكتبات، وصولاً إلى تأسيس حزب الله إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. كما شارك في تأسيس جمعية التعليم الديني، التي انبثقت منها مدارس المصطفى. بدأت مسيرة نعيم قاسم في الحزب، عضواً في مجلس الشورى، ثم تسلّم الأنشطة التربوية والكشفية في الحزب قبل ارتقائه في المناصب القيادية، إلى أن أضحى نائباً للأمين العام السابق عباس الموسوي عام 1991، واستمرّ في المنصب نفسه، مع السيّد نصر الله، 33 عاماً. وكان يتولى طوال السنوات المنصرمة ملف كتلة الوفاء للمقاومة في البرلمان، وترأس هيئة العمل الحكومي، لمتابعة أعمال الوزارات المختلفة ودراسة قراراتها، والإشراف على أعمال وزراء الحزب في الحكومة؛ فلم يكن له تعلّق مباشر بالعمل العسكري والأمني، كما كان حال نصر الله. وهو بخلاف سلفه، جمع بين الدراسة الدينية، ودراسة الكيمياء، بل ودرّس مادة الكيمياء في المدارس الثانوية ست سنوات، قبل تفرّغه للعمل التنظيمي.
إقرأ أيضاً: قاسم أميناً عامّاً: مرحلة “الحَرَس” الانتقاليّة؟
يتذكره بعض تلامذته في الحلقات التدريسية الأولى، نهاية الستينات، قبل انخراطه في السياسة، فيقول إنه كان لطيفاً بشوشاً، ومحبَّ باً ونشيطاً. وأنه في تلك الحقبة، كان يتحدّث بإسهاب عن حرب العصابات في فيتنام، وهو لم يبلغ العشرين بعد، مما يدلّ على وعي سياسي مبكر، وعن اطّلاع واسع. ومع توالي الأيام، صنعت اهتماماتُه شخصيتَه المميّزة؛ يفكّر بعقل علمي بارد، لكنه شديد الإيمان بما يعتقد أنه الحقّ والصواب.
لمتابعة الكاتب على X: