عن تفاهة الشرّ، قالت حنة أرندت إنّ المخيف في الأفكار الفاشية هو كونها تنمو ليس بسبب أشخاص كريهين يحملون نيّات خبيثة، بل من خلال أشخاص عاديّين ذوي نيّات طيّبة يظنّون أنّهم يخدمون قضية محقّة. أتت هذه الدراسة من فيلسوفة يهوديّة الأصل أفلتت من المحرقة النازية، بعد حضورها لمحكمة أدلف إيخمن، أحد مهندسي المحرقة، في سجن الرملة في فلسطين المحتلّة سنة 1962، بعدما سقط في مصيدة الموساد الإسرائيلي. أُعدم إيخمن بعدها بتهمٍ عديدة في معاداة الإنسانية، لكن أرندت قالت إنّ إعدام الأداة العاديّة قاصر عن علاج الفكرة التي استدرجت تلك الأداة.
تقول التقارير الإحصائية إنّ عدد ضحايا الذين سقطوا بسبب الفكرة الشيوعية يقارب مئة مليون على مدى أقلّ من قرن من الزمن. هذا يشمل القتل والإعدامات والموت في المعتقلات والمشاريع الفاشلة التي أدّت إلى الموت جوعاً أو مرضاً. هذه الإحصاءات لا تذكر، على الأرجح، عشرات ملايين “المناضلين” الشيوعيين الذين سقطوا في سبيل تلك الفكرة على مدى أقلّ من قرن عند تحوّل الماركسية اللينينيّة، مع تفرّعاتها العديدة من ماويّة وتروتسكيّة وغيرهما، إلى تيّار جامح أكل من عقول مليارات الناس من ضحايا وحشيّة الرأسمالية والإقطاع، المستضعفين الذين لم يكن لهم حول ولا قوّة لرفع الظلم والقهر عنهم.
أتى انتصار البلاشفة في روسيا ليشعل الأمل بوحدة المستضعفين في العالم. استدرج هذا الواقع أعداداً هائلة من النخب الثقافية، ذات التوجّه الإنساني المتعاطف مع الضعفاء، للدعاية والكتابة عن صفاء وقوّة هذه الفكرة وقدرتها على قلب الموازين لمصلحة الأكثرية الساحقة من البشر.
الصفويون استند حكمهم إلى ثنائيّة أسّسها لهم المحقّق الكركي، وهو من بلديّاتنا أيضاً، تقول إنّ الفقيه هو وكيل صاحب الزمان في غيبته للمسائل الفقهية
العجيب في تلك الفكرة هو كونها تعِد من يحيا من المستضعفين بجنّة على الأرض، لكنّها لا تعِد من يُقتل في سبيلها بأيّ شيء بعد الموت سوى العدميّة، أي على عكس الأفكار الدينية التي توسّع آفاق المستشهدين في حتمية الحياة الرغيدة بعد الموت. لكنّ عدمية الموت لشهداء الفكرة الشيوعية كانت أهون من عدمية الحياة في ظلّ الذلّ والهوان. هذا لم يمنع الشيوعية من التحوّل إلى دين من دون إله، متخم بالأنبياء والقدّيسين والشهداء، من ماركس وإنجلس، إلى لينين وستالين وماو وتروتسكي، وصولاً إلى غيفارا وأليندي.
مقدّسات الليبراليّة
بالمقابل، فإنّ فكرة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، وإن حاولت التبرّؤ من مسؤوليّاتها عن ضحايا دينها، فهي أيضاً لها مقدّسات وشهداء وعشرات الملايين من الضحايا الذين سقطوا من أجل فكرة نظريّة هي الحرّية، على الرغم من أنّ هذه الفكرة لا تعِد إلا بالعدمية المطلقة بعد الموت!
لكن، هل هناك لوم لمشغّلي الفكرتين على كون مئات الملايين اعتنقوهما، ثمّ قاتلوا وقُتلوا في سبيل فكرة تحوّلت إلى مقدّسة، على الرغم من أنّها مجرّد فكرة علمانية من بنات أفكار بشر آخرين، لم يدّعوا النبوّة، لكنّ فكرتهم حوّلتهم إلى أنبياء؟
تغيّرت اليوم معالم الحرب الباردة، وانتهت فكرة الشيوعية الأصولية، إلا في فكر بعض المتحجّرين في الماضي، غير القادرين على فهم حركة التاريخ التي لا تلوي على فكرة، ولا تهتمّ أصلاً بمن أطلق الفكرة ولا بمن فقد حياته في سبيلها. الفوائد والنتائج يحصدها عادة المشغّلون، وعادة هم الذين يبقون بعد الخراب والموت ليحصدوا النتائج من دون خجل أو شعور بالذنب.
فكرة ولاية الفقيه
ما لنا ولكلّ هذا الشرح المملّ، ولنعد إلى العنوان، وهو “لا عتب على إيران”.
بعد عودة الخميني من فرنسا واستيلائه على السلطة، بدا أنّ الرسائل والعلاقات مع المشروع كانت حاضرة أصلاً في الحوزات الدينية في قم من خلال تلامذتها اللبنانيين
لم تكن فكرة ولاية الفقيه من صنع إيراني، فعندما طرح الفكرة الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّيني، أي من عندنا من لبنان، كان ذلك قبل مئتي وخمسين سنة من ولادة الصفوية التي فرضت التشيّع على إيران أوّل القرن السادس عشر. أتت فكرة ولاية الفقيه كاجتهاد فقهي مختلَف عليه، يقضي بعدم جواز غياب الإدارة الفقهية في زمن الغيبة الكبرى. اعتبر الجزّيني بأنّ هذه المرجعية يجب أن تكون لمن هو الأفقه في عصره. كان ذلك أواسط القرن الثالث عشر، إلى أن أعدمه المماليك بعد عشرين سنة من العمل الدعويّ.
أمّا الصفويون فقد استند حكمهم إلى ثنائيّة أسّسها لهم المحقّق الكركي، وهو من بلديّاتنا أيضاً، تقول إنّ الفقيه هو وكيل صاحب الزمان في غيبته للمسائل الفقهية، فيما يكون الشاه الوكيل السياسي. ويؤكّد المعلّم علي شريعتي أنّ هذه الفكرة الثنائية أصلها مسيحي أوروبي، حيث الثنائية كانت قائمة بين البابوات والملوك. يقال إنّ المئات من الفقهاء العامليّين استُدعوا أو ذهبوا إلى الإمبراطورية الصفوية على مدى قرنين للمساهمة في بناء وتدعيم تلك الثنائية.
فكرة ولاية الفقيه الحديثة التي أسّسها الإمام الخميني، وشرح تفاصيلها في كتاباته، جمعت الثنائية في شخصه، وأضاف إلى وكالته المطلقة عن المهدي في غيبته، مهمّة الحكم المطلق في الدين والدنيا، كما تحضير الأرضية لفضّ الغيبة وخوض المعركة الأسطورية في “حر مجدو” بين الخير والشرّ. لكنّ بعض مروّجي الفكرة افترضوا أنّ توسيع مساحة سلطة الوليّ الفقيه هي من علامات قرب الفرج المقدّس، وبالتالي فإنّ مهمّة الوليّ الفقيه تشمل تصدير الثورة إلى المحيط الجغرافي، كما إلى العالم أجمع.
من هنا، فإنّ التوسّع في السلطة ليس فقط لدواعٍ سلطوية، بل هو مهمة مقدّسة وجزء لا يتجزّأ من مهامّ مشروع ولاية الفقيه. وهذا يعني أنّ عدم التوجّه للخارج لتصدير الثورة يُعدّ إهمالاً للمهمّة، وبالتالي تفقد هذه الفلسفة الماورائيّة منطق وجودها لتصبح مجرّد اجتهاد نظريّ بين اجتهادات عديدة أخرى.
أتت فكرة ولاية الفقيه كاجتهاد فقهي مختلَف عليه، يقضي بعدم جواز غياب الإدارة الفقهية في زمن الغيبة الكبرى
الأسطورة
بعد عودة الخميني من فرنسا واستيلائه على السلطة، بدا أنّ الرسائل والعلاقات مع المشروع كانت حاضرة أصلاً في الحوزات الدينية في قم من خلال تلامذتها اللبنانيين. ومن بعدها، أتى مشروع مواجهة الشيطان الأكبر وأتباعه ليستدرج الكثيرين من البشر، وبعضهم استتبع نفسه سياسياً في هذا المشروع، حتى وإن لم تهمّه ماورائيّاته. صدمة عدوان 1982 والفراغ الذي أحدثه غياب منظمة التحرير عن المشهد اللبناني، فتحت الباب واسعاً أمام المشروع ليلمّ مروحة واسعة من الساعين للاتّحاد تحت راية جامعة، من يمين ويسار ومؤمن وعلماني، وتمّ تجاهل الثغرات الفكرية التي اعترت المشروع من ناحية استناده إلى الأساطير.
مع الوقت وفي ظلّ العجز والإهمال الرسمي لقضية فلسطين، وبعد سلسلة من النجاحات العسكرية الطابع، بُنيت الأسطورة وسحبت إلى شباكها عقول الملايين وأجسادهم برغبتهم وبتبرّعهم للخدمة من دون إكراه، فلا أحد يمكنه أن يقنع الناس بالتخلّي عن حقّهم الفطريّ بالحياة غير رغبة شخصية جامحة أقوى من الحياة.
بالمقابل، فإنّ إيران ولاية الفقيه وجدت نفسها عائمة على بحر من البشر الصادقين في نيّاتهم لخدمة الخير ومواجهة الشرّ الأعظم والشيطان الأكبر، وهم مستعدّون من غير وجل لخدمة فكرة توسيع سلطة الوليّ الفقيه، وبالتالي حماية إيران ومصالحها وبرامجها الاقتصادية والنووية، على أساس أنّها مهمّة مقدّسة بالمطلق، حتى وإن أدّت إلى دمار وتخريب مجتمعات ودول وأرواح لا حصر لها.
تقول التقارير الإحصائية إنّ عدد ضحايا الذين سقطوا بسبب الفكرة الشيوعية يقارب مئة مليون على مدى أقلّ من قرن من الزمن
استخدام الفكرة لفرض الهيمنة
بالتأكيد يؤيّد هذا الكلام أنّ فكرة مواجهة الشرّ المتمثّل بإسرائيل، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كما من يدعمها، هي فكرة طيّبة ومنطقية يجب التعاون على إيجاد السبل لتحقيقها. بالمقابل، لا يسوّغ هذا الأمر أن تستخدم إيران ولاية الفقيه، هذه القضيّة المحقّة، لفرض هيمنتها على أرواح وأرزاق الناس، فيما قيادتها تتحاشى الدخول في صراع مباشر مع الشيطان الأكبر.
أقول إنّه لا عتب على إيران، بل العتب على من يستمرّ في وضع نفسه ورزقه وبيته وعائلته في خدمتها.
إقرأ أيضاً: عن صعوبة العلاج في ظلّ الهروب إلى الأمام
ملحوظة: أشار لي أحد الأصدقاء إلى أنّه على الرغم من الحاجات الملحّة وشحنات المساعدات الآتية بشكل مستمرّ من دول عربية، لم تأتِ أيّ مساعدة من إيران حتى هذه اللحظة.
لمتابعة الكاتب على X: