“أحرقت من خلفي جميع مراكبي إنّ الهوى ألّا يكون إياب
ما تبت عن عشقي ولا استغفرته ما أسخف العشّاق إن هم تابوا
لا الكأس تنسينا حزننا يوماً وما كلّ الشراب شراب
(من قصيدة “أنا يا صديقة متعب بعروبتي” لنزار قباني)
هذه القصيدة ألقاها نزار في كواليس القمّة العربية في تونس بعدما انتقل مقرّ الجامعة العربية إليها من مصر سنة 1980 بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. منذ ذاك التاريخ تغيّر العالم وانقلب، لكنّ قصيدة نزار ما زالت تنضح دماً ووجعاً. كان جميع القادة العرب ينتظرون أن يصبّ نزار جام غضبه وهجائه على أنور السادات، لكنّه لم يوفّر أحداً من الحضور الذين نعتهم بالأنصاب، فكان عليه أن يخرج مباشرة إلى المطار لأنّه غير مرغوب به، مع أنّ كلّ الموجودين كانوا مقتنعين أنّه على حقّ.
هم بالنهاية ناس
لقد تفهّمت من غير عتب كلام زعيم الحزب الراحل حسن نصرالله ببرودة في تقويم رسائل التضامن بمختلف أشكالها بعد كارثة البيجر التي حلّت بعناصره والبيئة الحاضنة للحزب في آخر كلام قاله قبل اغتياله. تضامن معظم اللبنانيين يرجع بالنهاية إلى أنّ الضحايا شبّان من خيرة أبناء البلد، ولهم أمّ وأخت وزوجة وعشيرة، مثلهم مثل كلّ الناس. وبما أنّهم أتقنوا وبرعوا في إدارة ما أوكلوا به من قبل قيادتهم، فهم كانوا سيبرعون أيضاً في الحياة اليومية العاديّة في مهنة كانوا سيختارونها لتسيير حياتهم، غير مهنة الحرب الدائمة.
يعني أنّه مهما بالغ السيّد في تصنيفهم بأنّهم أفضل وأشرف الناس، فهم بالنهاية ناس يحيون بين آخرين، والآخرون أيضاً يظنّ كلّ واحد منهم أنّه أفضل الناس، لكنّهم مجبرون، بحكم وجودهم بين الناس، أن يتصرّفوا بوداعة وتعاون، وكأنّهم مثل كلّ الناس، لحفظ الاستقرار ووقاية ذواتهم من شرّ الصراع. وهذا هو بالأساس مبدأ التقيّة المحمودة حسب رأي المعلّم الكبير علي شريعتي، وأمّا التقيّة الخبيثة فهي بالنسبة له التقيّة الصفوية التي تضمر الشرّ للأغيار، كاغتيالهم مثلاً بمتفجّرة أو كاتم صوت، والذهاب إلى جنائزهم لتقديم واجب العزاء.
برودة السيّد في شكر الناس “الأغيار”، أي غير المنتمين إلى حضنه وحاضنته، نابعة من عدم رغبته بتحميل القضية أكثر ممّا تحمل من عرفان بالمعروف
برودة السيّد في شكر الناس “الأغيار”، أي غير المنتمين إلى حضنه وحاضنته، نابعة من عدم رغبته بتحميل القضية أكثر ممّا تحمل من عرفان بالمعروف، وذلك حتى لا يخطر على أحد الخبثاء المطالبة بالمثل، أي أن يتحوّل المحازبون إلى ناس عاديّين مثلهم مثل غيرهم من الناس الذين يرون في واجب العمل للدنيا غير ما يراه الحزب من سعي للآخرة. لكنّ الحديث لن يدخل في هذا الجدل الذي لا قرارة له، بل إنّني أعتقد أيضاً أنّ برودة السيّد كانت سعياً لعدم جعل المعروف يطغى على جلل الحدث، وهذا منطقي.
المعلوم أيضاً أنّ الكثير من كلمات وأفعال التضامن، من قوى وأفراد لا يتبعون لبيئة الحزب الحاضنة، قد تكون وراءها أسباب عدّة. فالأفراد والمهنيون والمواطنون لا بدّ أنّ جلل المصاب وهوله هما ما دفعاهم إلى التعاطف كبشر لا يعتبرون أنّهم معصومون عن الوقوع في أمر جلل يحتاجون فيه إلى التعاطف من آخرين. وبعض التضامن أتى على خلفيّة عدم إبداء الشماتة لأنّها غير محمودة اجتماعياً. وبعضهم رأى في الأمر مناسبة لفتح قنوات لغايات في النفوس. أمّا مؤسّسات الدولة فلا داعي لشكرها أصلاً لأنّها قامت بواجبها في الأساس، وهي في كلّ الأحوال في جيب الحزب وتحت إمرته، إمّا رغبة وإمّا تقيّة.
التضامن مع البيئة
التضامن اليوم يجب أن يكون تجاه البيئة المتألّمة فعليّاً ونفسياً بحكم الواقعة الكارثية، حتى وإن كابرت وتمسّكت بحصونها المذهبية، فإنّ الخلاص يكون بالتأكيد عبر حضن الوطن وحصن الدولة المفتوحين للجميع، وطريق العودة هو الأكثر أماناً ووثوقاً من الهروب إلى الأمام وتنفيذ رؤيا شمشون “عليّ وعلى أعدائي”.
بكلّ موضوعية ومن دون أيّ غرضيّة، هذا هو واقع الحزب لأنّه تنظيم حديديّ ذو نواة صلبة يتفرّع منها كلّ شيء على المستوى المعيشي اليومي لأتباعه
علينا أن نفهم أنّ جزءاً مهمّاً من مجتمعنا قد عاش في البيئة التي صارت أشرف الناس، بعدما ربطت مصيرها وحاضرها ومستقبلها بوجود فكرة، قد يراها البعض أسطورة، لكنّ معظمنا، إن لم نكن كلّنا، يحيا في أسطورة شخصية أو جماعية أو الاثنتين معاً. لكن إن كان معظم الناس مع عيشهم في أساطيرهم، فهم منفتحون للاحتمالات اليومية لتسيير أمورهم، كما للتفاعل مع رؤياهم المستقبلية، وهو ما يعطيهم القدرة على التحوّل والتفاعل لتغيير مساراتهم بشكل تكتيكي، أو حتى استراتيجي عبر تغيير مسارات حياتهم. إشكال مقاتلي وموظّفي وقياديّي الحزب، كما جزء من البيئة الحاضنة، هو أنّ الخيارات اليومية، كما المستقبلية، مرتبطة بشكل حميم بوجود منظومة الحزب ومؤسّساته العديدة.
هذا ما يعني أنّ غياب هذه المنظومة بشكل مفاجئ قد يعني وقوع المستندين إليها في العدمية المطلقة، بغياب أيّ بديل يمكنه طمأنة هؤلاء أو التخفيف من حدّة الأزمات خلال مرحلة انتقالية قد تكون مستحيلة لقلّة، لكنّها ستساعد الكثرة على تخطّيها. وعندما نقول قلّة، فهذا ليس للتقليل من أهمّيتها، بل على عكس ذلك لأنّ هذه القلّة قد تذهب بخياراتها حدّ الهروب إلى الأمام على طريقة طارق بن زياد، أي العدوّ من أمامكم والبحر من ورائكم، بعدما أحرقت كلّ وسائل العودة إلى شطّ آمن. وبالهروب إلى الأمام، فإنّ الجميع يصبحون ضحايا في ظلّ هذا الواقع، بين ردّ وردّ على الردّ، وردّ على ردّ الردّ.
لبنان بأجمعه في حاجة إلى الاحتضان. لكنّ المهمّ الآن، على الرغم من صعوبة الوضع إلى حدّ استحالة العلاج
بكلّ موضوعية ومن دون أيّ غرضيّة، هذا هو واقع الحزب لأنّه تنظيم حديديّ ذو نواة صلبة يتفرّع منها كلّ شيء على المستوى المعيشي اليومي لأتباعه، كما على مستوى البناء للمستقبل.
إقرأ أيضاً: الخلاف مع الحزب.. حول العصا والجزرة
صحيح أنّ المنظومة العسكرية لديها الاستقلال الميداني للتصرّف مع المعطيات والمستجدّات الأمنيّة الطابع، لكنّ قوّة التلاحم مع التنظيم وتداخله في كلّ شاردة وواردة من مال وصحّة واجتماع هما مصدر أساسي للضعف في التأقلم مع مستجدّات وكوارث تتجاوز القدرات الكامنة لهذا التنظيم. وبما أنّ لبنان الدولة والمجتمع قدراته مستنفدة، فإنّ وضع الذين وجدوا أنفسهم منقطعين عن الرابط مع مؤسّسات الحزب سيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأنّ لبنان بأجمعه في حاجة إلى الاحتضان. لكنّ المهمّ الآن، على الرغم من صعوبة الوضع إلى حدّ استحالة العلاج، هو السعي إلى المرور بهذه المرحلة بكلّ ما يمكن من صبر وتفهّم.
لمتابعة الكاتب على X: