فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

مدة القراءة 10 د

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن من زحزحة تلك الشخصيات من مكانها في التاريخ، سواء أكانوا علماء في مختلف الاختصاصات أو قادة سياسيين أو عسكريين أو مصلحين اجتماعيين، نظراً لضخامة إنجازاتهم في الحقول والمجالات التي عملوا فيها وأبدعوا. لكنّ شخصيّات أخرى من قماشة الريادة والزعامة نفسها، ممّن اختلف الناس حولهم بشدّة، تقريظاً ومدحاً وتعظيماً وتقديساً، من جهة، وذمّاً وتشنيعاً وإنكاراً وتشويهاً من جهة أخرى. ومن هؤلاء، محمد فتح الله غولن.

توفّي غولن في منفاه الاختياري في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأميركية، عن عمر ناهز 86 سنة، بعد حياة حافلة بالعمل الفكري، أو الفكر العملي، من وعظ وإرشاد وتربية وتنظيم. وهو ما أنتج واحدة من أقوى الجماعات الإسلامية في المرحلة الممتدّة بين منتصف القرن الماضي والربع الأوّل من القرن الحالي، ليس من حيث أعداد المنتسبين رسمياً إلى جماعته، “جماعة الخدمة”، أو Hizmet باللغة التركية، بل من حيث العدد الكبير للمؤسّسات التي أنشأتها جماعته والتي تهيمن على المجال العامّ في أيّ مجتمع تعمل فيه، تربوياً، واجتماعياً، وخيرياً، وإعلامياً. فمن هو محمد فتح الله غولن، وما هي جماعة الخدمة؟ ولماذا اصطدمت مع الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، وهو حزب ذو طابع إسلامي؟

 

يختلف الباحثون في تاريخ ولادة محمد فتح الله غولن: أهو في عام 1938 أم 1941 أم 1942؟ وهذا أمر مستغرب بعد نشوء الجمهورية التركية الحديثة. لكنّ لهذا قصة ذات مغزى، وتدلّ على البيئة السياسية والاجتماعية الحسّاسة التي نشأ فيها غولن. فتركيا كانت قد خلعت رداءها العثماني الإسلامي قبل 14 عاماً فقط. وكانت ما زالت في ذروة التعصّب العلماني، الذي ينبذ أيّ إشارة أو علامة على الإسلام. فقد وُلد غولن في 11 تشرين الثاني عام 1938، بعد يوم واحد فقط من وفاة مصطفى كمال “أتاتورك”.

في مسيرته الدعوية، يمكن تلمّس محطّات أساسية كان لها تعلّق بالتطوّرات السياسية في تركيا والعالم

ذهب والده رامز أفندي إلى إدارة تسجيل الولادات، لكنّ الموظّف رفض تسجيل اسم ولده “محمد فتح الله غولن”، ولم يتمكّن والده من تسجيله في دائرة النفوس إلا بعد أربع سنوات، بوساطة ضابط مخفر القرية، لكنّ الموظّف حرّف الاسم فسجّله “فتُّ الله” حاذفاً الحاء، وكلمة محمد. فأصبح ميلاده الرسمي 1942. ثمّ لما أراد غولن التقدّم إلى وظيفة إمام في مسجد بأدرنة، عام 1959، وكان عمره الرسمي 17 سنة، ويتعذّر عليه تسلّم الوظيفة، راجع المحكمة، فجعلت التاريخ أكبر بسنة، فصار ميلاده الرسمي 1941.

أمّا نشأته فكانت في قريته “كوروجك” في أرضروم، شمال شرق الأناضول، وهي من أكثر المناطق تديّناً في تركيا. وأبرز من تلقّى عليهم العلوم، هما والدته رفيعة هانم، التي علّمته القرآن، إلى أن أتمّ حفظه. ولقّنه والده رامز أفندي، وكان إمام مسجد، أُسس العلوم الشرعية، وقواعد اللغتين العربية والفارسية، لأنّ معظم التراث الإسلامي مكتوب بهاتين اللغتين، إلى جانب إتقانه اللغة التركية، مع متابعته الدرس لدى علماء آخرين، لكنّ تكوينه العلمي الأساسي ناتج عن قراءاته الذاتية جامعاً في تحصيله العلمي بين العلوم الإسلامية والعلوم الحديثة، من آداب وعلوم اجتماع ونفس، والفيزياء والكيمياء والفلك. كما عُرف عنه اهتمامه بعلم الرياضيات وحضّ تلاميذه على الاهتمام بهذا العلم، الذي تسمو به الأمم وترتقي في مدارج الحضارة.
من بين العلماء الذين قرأ لهم وتأثّر بهم أشدّ التأثير، هو بديع الزمان سعيد النورسي (توفّي عام 1960). وبحسب مدوّني سيرة غولن، لم يلتقِ بالنورسي، لكن قرأ “رسائل النور” للنورسي، فأُعجب بها كثيراً، وسار على منوالها في مواعظه التي جُمعت ونُشرت في كتب تجاوز عددها سبعين. ولا بدّ أنّه تأثّر بسيرة النورسي، الذي عاصر أتاتورك وعارضه، وقضى حياته وهو يناضل ضدّ الإجراءات العلمانية التي تتدخّل في الحياة الخاصة لكلّ فرد، من إلزام الناس بلبس القبّعة الغربية، ونزع حجاب المرأة، وكتابة اللغة التركية بالأحرف اللاتينية، ورفع الأذان بالتركية، وترجمة القرآن إلى التركية.

 غولن يعطي الأولوية لاختراق وعي المجتمع، معتبراً السياسة عائقاً خطيراً أمام تحقيق الأهداف المرسومة لجماعته

بإزاء كلّ مسألة من هذه المسائل، وبمناسبة نشره “رسائل النور”، كان القضاء التركي يلاحقه ويسجنه ثمّ يبرّئه ويُطلق سراحه، مع أنّه لم يزاول السياسة مطلقاً. لكنّ معارضته الشديدة للسياسات الحكومية كانت إلى حدٍّ كبير عملاً سياسياً غير معلن.

محطّات أساسيّة في مسيرته

في مسيرته الدعوية، يمكن تلمّس محطّات أساسية كان لها تعلّق بالتطوّرات السياسية في تركيا والعالم:

– أوّلاً، انتقاله من أدرنة إلى إزمير عام 1966، وهي المدينة السياحية الواقعة في جنوب غرب تركيا، جعله يستجيب لتحدّي المؤثّرات الغربية بانفتاح وحوار، لا بانغلاق وتعصّب. الفرصة سنحت له في هذا المكان فبدأ الاهتمام بنشأة الأطفال، والمدارس، فنظّم المعسكرات الصيفية، وأنشأ أوّل ثانوية في إزمير للأئمّة والخطباء، وبنى مقرّاً للمعهد الإسلامي للتعليم العالي التابع لجامعة إزمير، إضافة إلى بناء مساكن للطلاب، ثمّ إقامة معاهد الإعداد للجامعة، التي تزوّد الطلاب بدروس إضافية استعداداً لدخول الجامعة.

غولن

– ثانياً، بلغ نشاطه الدعويّ الذروة بين عامي 1970 و1980، وكانت تركيا تشهد صحوة دينية، كمثل الصحوة التي كان يعيشها العالم العربي. يجول في كلّ أنحاء تركيا، يخطب ويعظ، وتقام له الندوات والمحاضرات، وتُحجز له صالات السينما كي يخاطب فيها الناس. لكن مع احتدام العنف بين اليسار واليمين المتطرّفين، لا سيما بين عامي 1976 و1980، وسقوط أكثر من خمسة آلاف قتيل، تحرّك الجيش التركي ونفّذ انقلاباً على حكومة سليمان ديميريل (توفّي عام 2015) على يد قائد الأركان كنعان إيفيرين (توفّي عام 2015).

إذا كان الانقلاب قد جاء لفرض الأمن، والدفاع عن العلمانية في الوقت نفسه، إلا أنّ غولن الذي كان مطلوباً القبض عليه من ضمن الحملة الشاملة على كلّ الناشطين من كلّ التيارات، ظلّ مختفياً عن الأنظار حتى عام 1986. وفي أثناء ذلك افتتح طلابه العمل التربوي الذي سيصبح علامة فارقة في جماعته، عندما أسّسوا مدرسة نموذجية للتعليم الأساسي، هي مدرسة الفاتح عام 1981. وكان سقوط الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينيات فرصة ذهبية لتوسّع الجماعة في بناء المدارس في دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية.

انتقاله عام 1996 إلى إستانبول كان مرحلة جديدة ومتقدّمة في دعوة غولن، وتنظيمه الاجتماعي، من خلال الانفتاح على النخبة التركية

إستانبول… وتوسّع التّنظيم

– ثالثاً، انتقاله عام 1996 إلى إستانبول كان مرحلة جديدة ومتقدّمة في دعوة غولن، وتنظيمه الاجتماعي، من خلال الانفتاح على النخبة التركية من كلّ الانتماءات والاتّجاهات السياسية والاجتماعية والدينية. فزار مقارّ الصحف والأحزاب ومؤسّسات المجتمع المدني، ورجال الثقافة والإعلام والفنّ والرياضة. وكان ذلك عقب تأسيسه عام 1994 “وقف الصحافيين والكُتّاب” الذي أضحى مؤسّسة كبرى تنظّم المؤتمرات والأنشطة داخل تركيا وخارجها، ويشارك فيها أبرز الشخصيات من بلدان إسلامية وغربية.

كان تأسيس هذا الوقف إشارة الانطلاق للإمبراطورية الإعلامية لجماعة غولن، التي باتت تحمل اسم “جماعة الخدمة”، وتتبع له صحف، ومن أبرزها صحيفة “زمان”، ومجلّات متنوّعة، ولا سيما مجلّة “حرّاء”، وقنوات فضائية، ومواقع إلكترونية بـ22 لغة، وأقسام ترجمة فيها إلى 42 لغة.

أمّا رجال الأعمال فنظّمهم في منتدى خاصّ بهم هو “توسكون”، وكانوا الداعم الأوّل لجماعته، وهو ما سمح لجماعته بإيجاد دورة اقتصادية متكاملة، فهم يموّلون المدارس ويدعمون الطلاب، ثمّ يستفيدون من المتخرّجين، وهم ذوو تكوين مميّز في مؤسّساتهم الصناعية والتجارية. وأسّست الجماعة “بنك آسيا”، في الإطار نفسه. وعندما انتقل غولن للإقامة في الولايات المتحدة للاستشفاء عام 1999، عقب الانقلاب العسكري ضدّ حكومة نجم الدين أربكان (توفّي عام 2011)، كان لدى الجماعة أكثر من 15 جامعة، ومئات المدن والبيوت السكنية للطلاب.

صراعه المرير مع إردوغان

– رابعاً، الصراع المرير مع إردوغان. فعلى الرغم من تحالفهما انتخابياً منذ وصول إردوغان إلى رئاسة الحكومة عام 2003، إلا أنّ التنافس بين الرجلين كان محتوماً، من ناحيتين شخصية ومنهجية. فإردوغان شخصية قويّة وصاعدة، وبالمقابل كان فتح الله غولن في ذروة قوّته، وجماعته شديدة التنظيم بما يجعلها تتفوّق على جماعة إردوغان المنشقّة عن حزب الرفاه الإسلامي التوجّه، والمندرجة في ائتلاف إسلامي قوميّ هو حزب العدالة والتنمية، وتتغلغل في أجهزة الدولة البيروقراطية والعسكرية، استناداً إلى قدرتها البالغة على تنشئة نخبة المجتمع، من خلال مدارسها التي تعتمد على جودة التعليم، واجتذاب أبناء الأغنياء، الذين يصلون تدريجياً إلى أعلى المناصب وأخطرها.

توفّي غولن في منفاه الاختياري في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأميركية، عن عمر ناهز 86 سنة، بعد حياة حافلة بالعمل الفكري

بل يمكن القول إنّ البيئة الحاضنة كانت مشتركة بين الجماعتين، في حين أنّ المنهجين مختلفان. فإردوغان سياسي محترف. أمّا غولن فيعطي الأولوية لاختراق وعي المجتمع، معتبراً السياسة عائقاً خطيراً أمام تحقيق الأهداف المرسومة لجماعته. وهذا ما يظهر من تبرّؤ “جماعة الخدمة” من السياسة، في موقعها الرسمي. لكنّ ما يعتبره خصوم غولن من “تقيّة سياسية” معتمدة في منهجه، هو الذي سمح لأتباعه بتجنّب المظاهر الإسلامية وعدم كشف تديّنهم أمام الآخرين، فمكّن “الكيان الموازي” بحسب تسمية الحزب الحاكم من اختراق الاستخبارات والقضاء على نحوٍ أتاح لجماعة غولن التنصّت غير القانوني على مسؤولين مقرّبين من حزب العدالة والتنمية، واعتقالهم وسجنهم بتهمة الفساد.

وصلت الأزمة إلى الذروة بوقوع انقلاب عسكري في 15 تموز عام 2016 واتّهام غولن بالوقوف وراءه. سبق ذلك تصنيف الجماعة في تركيا في 11 كانون الأوّل عام 2015 على لائحة المنظّمات الإرهابية. وعقب فشل الانقلاب، أُتيح لإردوغان إخراج عشرات آلاف المدرّسين وموظّفي الدولة من مواقعهم، في أكبر حملة تطهير في تاريخ البلاد، وهو ما ترك جرحاً لم يبرأ حتى اليوم، مع كثير من الغموض حول صحّة تورّط جماعة المدرّسين، الكارهة للعنف وللسياسة، في عمل سياسي وعنفيّ من الطراز الأوّل، وهو ما حدث في الانقلاب المشؤوم.

إقرأ أيضاً: حكاية أردوغان وغولن: “حروب الأخوة الأعداء”

ما كان لافتاً أنّ مريدي محمد فتح الله غولن الذي لم يكن صوفياً تقليدياً، ولا شيخ طريقة، يعتبرونه من أولياء الله الرفيعي المرتبة، في حين أنّ ألدّ أعدائه وهو الرئيس إردوغان، يقول لمناسبة وفاة غولن: إنّه لقي ميتة مشينة، مشبّهاً إيّاه بـ”شيطان على هيئة بشر”.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…