في السياسة يبدو الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميّل، والأمين العام للحزب، متناقضين حدّ الثمالة. لكن بين عمليّتَي اغتيالهما قواسم مشتركة كثيرة.
كلّ اغتيال سياسي في لبنان لغزٌ تزيده الأيام غموضاً. حكايات اللبنانيين مع الألغاز كثيرة وعديدة. أهمّها تلك التي انطلقت مع اغتيال رياض الصلح بُعيد الاستقلال، عام 1951، ولم تنتهِ مع اغتيال الأمين العام للحزب. والأرجح أنّها لن تنتهي. فبُعيد اغتياله بأيّام أعلنت إسرائيل اغتيالها المرشّح ليحلّ محلّه، السيّد هاشم صفي الدين، وهي تلوّح كلّ يوم باغتيال نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم، المرشّح ليحلّ محلّهما.
في السياسة يبدو الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميّل، والأمين العام للحزب، متناقضين حدّ الثمالة. لكن بين عمليّتَي اغتيالهما قواسم مشتركة كثيرة.
الاغتيال ومفاعيل الإلغاء
الاغتيال السياسي، بوصفه إلغاءً للآخر ونهايةً مزعومةً لشخص، هو في لبنان اغتيال لأبعد أو لأكثر من الشخص نفسه. فالسياسي في لبنان نادراً ما يكون فرداً. وهو على الأغلب طائفة أو تيّار أو مشروع. السياسيّ في لبنان زمنٌ وباغتياله يبدأ زمن آخر على أنقاض سابقه.
في هذا يندرج اغتيال نصرالله. وهو قام على أنقاض اغتيال آخر سبقه بزمن، أو ربّما بأزمنة كثيرة، هو اغتيال بشير الجميّل. فالشخص – المشروع الذي يمثّله نصرالله بدأ بانتهاء شخص – مشروع آخر سبقه، هو بشير الجميّل. وقد تزامنت ولادة الحزب كلّه، في الأشهر التي تلت الاجتياح الإسرائيلي في صيف عام 1982، مع اغتيال بشير الجميّل في خريفه.
في تعليقها على اغتيال عدد من قادة الحزب العسكريين، رفاق نصرالله أو إخوته، رحّبت الولايات المتحدة بالأمر عازيةً ترحيبها إلى مشاركتهم في أحداث أمنيّة وقعت في زمن بشير، بمعنى زمن القضاء على مشروعه، مطلع الثمانينيات، وأبرزها تفجير السفارة الأميركية في بيروت ومقرّ المارينز.
المفارقة أنّ بين الاغتيالين قواسم مشتركة كثيرة، على الرغم ممّا يبدو للمراقب من تناقض حادّ بل تضادّ بين الشخصين – المشروعين.
كلّ اغتيال سياسي في لبنان لغزٌ تزيده الأيام غموضاً. حكايات اللبنانيين مع الألغاز كثيرة وعديدة. أهمّها تلك التي انطلقت مع اغتيال رياض الصلح
اغتيال بشير
منذ اغتيال الرئيس بشير الجميّل في أيلول من عام 1982، والكلام حول العملية لا ينتهي ولا يصل إلى حقيقة ثابتة يجمع عليها اللبنانيون أو على الأقلّ المراقبون. وإذ كان في الواقع أنّ السوفيات (يوري أندروبوف) اتّخذوا قرار اغتياله لأنّ الرئيس اللبناني الراحل بوصوله إلى سدّة الرئاسة ينتج نقل لبنان كلّه إلى حضن الغرب، لكنّ البعض يجزم بأنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو من اغتاله، بينما يذهب آخرون إلى أنّ إسرائيل هي من اغتالته، أو على الأقلّ سهّلت اغتياله وتراخت في حمايته لأنّه “خرج عن طوعها”:
– أصحاب الرأي الأوّل يتحدّثون عن تفاصيل عملية الاغتيال مذ كانت فكرةً إلى أن نفّذها بحذافيرها وبنجاح حبيب الشرتوني.
– أصحاب الرأي الثاني يقرأون العملية بعين سياسية، إذ يقولون إنّ خلافاً نشأ بين بشير الجميّل والإسرائيليين الذين يذهب كثر إلى أنّه وصل إلى سدّة الرئاسة على دبّاباتهم. سال حبر كثير حول اجتماع نهاريا بين مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي وبشير الجميّل.
يذهب أصحاب الرأي الأخير إلى أنّ بشير رفض الإملاءات الإسرائيلية بُعيد انتخابه رئيساً، وحاول التملّص أو هو تملّص من وعود أو اتفاقات كان قد عقدها مع الإسرائيليين، وأنّه حين وصل إلى سدّة الرئاسة، اتّسعت الرؤية لديه، وصار أقرب أو راح يحاول التقرّب من عمق لبنان العربي.
قيل الكثير عن زيارات عربية قام بها وأخرى كان ينوي القيام بها.
الخلاصة في الأمر أنّ الجميّل دفع ثمن عودته إلى لبنان الكبير، لبنان الأكبر من كانتون مسيحي والأصغر من أمّة.
منذ اغتيال الرئيس بشير الجميّل في أيلول من عام 1982، والكلام حول العملية لا ينتهي ولا يصل إلى حقيقة ثابتة يجمع عليها اللبنانيون أو على الأقلّ المراقبون
اغتيال نصرالله
أيضاً في اغتيال نصرالله لا رواية كاملةً تشبع ظمأ المتابع والمراقب لمعرفة الحقيقة كاملةً. في الظاهر اغتالته إسرائيل، وهذا واضح ومصوّر ومعلَن. لكنّ في الباطن حكايات وأسئلة كثيرة، أبرزها: من وشى بمكانه؟ وهو المحصّن منذ عقود في مأمن لا يعرف عنه إلا قلّة؟ هل رفعت إيران غطاءها عنه أم غطاؤها لا يحمي ولا يقي؟
هكذا صَدَرَ كلام إيراني بُعيد اغتيال نصرالله مفاده أنّ المرشد الإيراني علي خامنئي كان قد حذّره من مغبّة اغتياله، وطلب إليه الذهاب إلى إيران. قيل أيضاً إنّ إيرانياً كبيراً وشى به. وقيل الكثير ممّا سيبقى يتردّد على مرّ الأيام دون الجزم به.
لكن سياسياً اغتيل نصرالله بعد موافقته على المبادرة الأميركية ـ الفرنسية لوقف إطلاق النار. وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب صرّح بالأمر. الوزير السابق غسان سلامة أكّدهُ في إطلالة تلفزيونية له أخيراً على “فرانس 24”. كذلك أعلنه الرئيس نبيه برّي أكثر من مرّة.
بمعنى آخر، نصرالله وافق على وقف لإطلاق النار وفصل المسار اللبناني عن المسار الفلسطيني، أو فضّ التحالف مع حركة حماس وخرج من حرب الإسناد والمشاغلة التي ابتدأها صبيحة الثامن من تشرين الأول 2023. بمعنى آخر، وافق نصر الله على الخروج من “وحدة الساحات” التي كان قد أعلنها سابقاً، وتشمل ساحات إيران في الوطن العربي من اليمن إلى العراق مروراً بفلسطين وسوريا ولبنان.
الاغتيالان تمّا في وقت دنا المستهدَفان فيهما من “لبنان الكبير”، كلّ من جهته: بشير من الكانتون المسيحي الضيّق، ونصرالله من الأمّة الإسلامية الواسعة والرحبة
من أوجه الشّبه أيضاً
طبعاً ليس بإمكان أحد أن يقطع الشكّ باليقين في ما سبق، ولا أن يوقف سيل ما كُتب وما سيكتب عن هذا الاغتيال. لكنّ ثمّة تشابهاً كبيراً بينه وبين اغتيال بشير الجميّل أبرز وجوهه:
– الاغتيالان كانا بمنزلة إعلان انتهاء مشروع سياسي.
– أصابع إسرائيل وبصماتها واضحة في العمليّتين.
– الاغتيالان إعلانان منفصلان، كلّ على حدة، عن انتهاء أو أفول غلبة طائفية ـ سياسية في لبنان.
– الاغتيالان تمّا في وقت دنا المستهدَفان فيهما من “لبنان الكبير”، كلّ من جهته: بشير من الكانتون المسيحي الضيّق، ونصرالله من الأمّة الإسلامية الواسعة والرحبة.
إقرأ أيضاً: أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟
إلى ذلك، يندرج الاغتيالان في سياق عامّ عنوانه أنّه ممنوع أن يكون في لبنان قائد بوزن كبير، قائد فاعل في الوطن وفي الإقليم، وربّما في العالم. الأحداث كلّها تشير إلى هذا، من اغتيال رياض الصلح مروراً باغتيال كمال جنبلاط، فبشير الجميّل، فرشيد كرامي، فرفيق الحريري، وصولاً إلى حسن نصرالله.
لمتابعة الكاتب على X: