أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟

مدة القراءة 6 د

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا وفيها وُلدنا ونشأنا وتعلّمنا، وفيها نعمل، وإلى ترابها سنعود.

 

 

طائرة استطلاع إسرائيلية تحلّق في الأجواء وخمسة اتصالات هاتفية وهمية تنذر بقصف أربعة أماكن متفرّقة في العاصمة بيروت، تضمّ مكاتب إعلاميةً وسفارة ومنازل سكنيةً، يوم الخميس الفائت، كانت كفيلةً بهزّ العاصمة اللبنانية من دون قصفها حتى.

اتصال بمكتب الجزيرة ينذر بقصف المبنى، وثانٍ بسفارة النروج، وثالث بديوان المحاسبة، ورابع بفندق “المركزية”، وأخير بمنطقة ساقية الجنزير. لاحقاً تبيّن أنّها اتصالات كاذبة، أو إنذارات مفبركة من فعل فاعل. إلا أنّ حالة الهلع والخوف والضياع لم تكن مفبركةً، وفراغ الأمكنة تلك من قاطنيها وفراغ المناطق القريبة منها، لم يكن كاذباً، بل كان أقصى من الحقيقة نفسها.

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا

المفارقة أنّ المدينة تقصف منذ شهر إلّا نيفاً تقريباً من قبل إسرائيل، وأنّه إلى ضاحيتها استُهدفت حتى الآن أربع مناطق متفرّقة فيها خارج الضاحية التي أفرغت من سكّانها تماماً، هي الكولا والباشورة والبسطة وبربور، ولم يصبها ما أصابها بالبلاغات الكاذبة هذه.

مدينة هشّة… وأهلها يريدون النجاة

بدت المدينة بُعيد الاتّصالات هذه هشّةً. إذ في إمكان طائرة استطلاع وخمسة بلاغات كاذبة محو معالم الحياة فيها، وتحويل سكّانها إلى أفراد وعائلات يفرّون في كلّ اتجاه هلعين لا وجهة لديهم ولا هدف غير النجاة كيفما اتّفق. هكذا وقعت بيروت في الحصار من دون حربٍ ولا إنذار.

هي الحرب صحيح، لكنّها ليست الأولى التي تشنّها إسرائيل على بيروت. سبقتها حروب واعتداءات إسرائيلية كثيرة لم تنقطع يوماً منذ سبعين عاماً ونيّف. أكثر من ذلك، اجتاحت ذات حرب إسرائيل العاصمة اللبنانية عام 1982، ولم تهلع المدينة ولا هلع سكّانها. رزحت قرابة 15 سنةً تحت وطأة حرب أهلية طاحنة ودامية، من دون أن تصل إلى ما وصلت إليه بخمسة بلاغات كاذبة وطائرة “إم ـ ك”.

لا أعرف ما الذي تغيّر اليوم: بيروت أم إسرائيل واعتداءاتها، أم الزمن، أم السكّان؟ ربّما كلّها جميعاً، لكنّ المؤكّد أنّ تغييراً كبيراً قد حصل.

هي الحرب صحيح، لكنّها ليست الأولى التي تشنّها إسرائيل على بيروت. سبقتها حروب واعتداءات إسرائيلية كثيرة لم تنقطع يوماً منذ سبعين عاماً ونيّف

إسرائيل تغيّرت. لا تزال كياناً غاصباً محتلّاً وعدوانيّاً ووحشيّاً، لكنّه اليوم كيان بلا حسابات. لم تعد إسرائيل تحسب الثمن أو التكلفة. الخسائر التي قد تتعرّض لها لم تعد تخيفها. لقد بلغت من العدوانية سنّ التوحّش والإجرام وأكثر.

أمّا الزمن، فلم يعد “بيروتيّاً”. لم يعد يمشي على إيقاع بيروت، أو يتوقّف عندها ليستريح أو ليأخذ قيلولةً على شاطئها أو في منتدياتها. لم يعد يقرأ صحفها. صحفها؟ نسيت أنّ غالبيّتها غادرت ربّما إلى غير رجعة.

رحيل “روح” بيروت؟

أمّا السكّان فلم تعد “البيروتيّة” سمةً غالبةً عليهم، والمقصود هنا ليست المناطقية أو الجنسية، بل الثقافة والروح. لم تعد الروح البيروتية أو روح بيروت تسكن في أجساد ساكنيها، باستثناء قلّة ربّما.

أمّا بيروت التي “تحترق ولا ترفع الراية البيضاء”، كما صدرت جريدة السفير ذات اجتياح وحصار إسرائيليَّين، فتحترق اليوم وتهلع وتفرّ من جغرافيّتها من دون أفق.

حتى ما قبل الإنذارات الكاذبة تلك، كانت بيروت تعجّ بالناس، نازحين من الجنوب والبقاع والضاحية، ومن سوريا، ولاجئين فلسطينيين، وبأهلها، أهلها الذين ما سكّروا باباً في وجه زائر أو ضيف أو نازح أو لاجئ طوال تاريخهم. ربّما هي “صيبة عين”!

إسرائيل تغيّرت. لا تزال كياناً غاصباً محتلّاً وعدوانيّاً ووحشيّاً، لكنّه اليوم كيان بلا حسابات. لم تعد إسرائيل تحسب الثمن أو التكلفة

ما الذي جرى؟ من مسّ كبرياءك يا بيروت؟

ما الذي أدخل الهلع والخوف إلى قلبك، يا صاحبة الكلمة الحقّ التي لطالما كنت تقولينها في بلاط كلّ سلطان جائر، وكلّ دولة جائرة؟

هل السبب هو العدد الكبير من النازحين واللاجئين واللائذين بك؟ لا، من المؤكّد أن لا، فلطالما استوعبت واستضفت أضعاف هذا العدد برحابة صدرك وسعة أفقك.

أهو النأي كراهيةً عن عمقك العربي؟ ربّما.

حقّاً يا بيروت ما الذي جرى لك وفيك وحولك؟ أين بحرك؟ أين الجبل الذي تستظلّين بظلاله؟ تبدين اليوم وكأنّك محاطة بإسرائيل من كلّ حدب وصوب. إسرائيل التي لا تشبهك في شيء. إسرائيل التي هي أصغر من قعدة في حضنك الدافئ، وأضيق من زقاق عتيق فيك ما زال عتيّاً على الزمن. إسرائيل الأجبن من مانشيت صحافي يعلن اندلاع صباح جديد على أرصفتك وفي مقاهيك وبين شوارعك ومنازلك التي من صفاتها أنّها آمنة. إسرائيل التي ليست أقدم من كتاب يصدر فيك غداً، وهيهات تصير طازجة كرغيف خرج من أفرانك للتوّ.

آه يا بيروت.. كم نحن في حاجة إلى مدينةٍ كُنتِها بالأمس! كم نحن في خوف! كم نحن على قلق! كم نَحُن على بيروت!

من قلّم أظافر العاصمة؟

ما الذي جرى لك يا بيروت، حتى تبدّل طقسك، وتغيّرت روحك؟ من قلّم أظافرك، وقصّ شعرك، وغيّر لون حبرك وطعمه؟ ما الذي جرى اليوم، ونحن اللبنانيين نتّكل بعد الله عليكِ؟ ما لراياتك لا تحرّكها ريح أو تدغدغها فكرة؟ ما لشوارعك نمشي عليها خائفين تائهين؟ منذ متى يتيه مقيم أو غريب في شوارعك يا بيروت؟ الذين نزحوا وافترشوا شوارعك، ما افترشوها إلا لأنّهم جُبلوا على أنّها آمنة، وأكثر دفئاً من أسرّتهم، وأرحب من بيوتهم، وأستر من كلّ حائط وجدار.

ما الذي جرى يا بيروت؟ لماذا تتركيننا اليوم في أحضانك وتبتعدين؟ متى تعودين؟ متى تقفين على شاطئك الجميل، وتغسلين وجهك، لنستيقظ من جديد، ويستيقظ الوطن من سباته، ويفيق المغامرون من رهاناتهم؟

متى تمطر سماؤك لتغسل وجهك ووجهتنا، فنعود إلى الوطن؟

متى تقفين على قدميك وتفتحين ذراعيك، لترتسم حدود لبنان من جديد؟

إقرأ أيضاً: مؤتمر باريس لدّعم لبنان: أكثر من إغاثة

كيف يكون لبنان بلا بيروت؟ لا لبنان بلا بيروت. حين تعود الطمأنينة إلى قلب العاصمة، يتحرّر الوطن ويصير حصيناً ومنيعاً. أمّا حين يدبّ الذعر في قلبها وقلوب قاطنيها واللائذين بها، فيكون الوطن كما هو اليوم: مستباح تهزّه كلّ ريح، ولقمة سائغة لكلّ طامع وحاسد وعدوّ.

آه يا بيروت.. كم نحن في حاجة إلى مدينةٍ كُنتِها بالأمس! كم نحن في خوف! كم نحن على قلق! كم نَحُن على بيروت!

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

بلينكن وهوكستين… مبعوثا الوقت الضائع

الحرب تزداد اشتعالاً في غزة، ولا مؤشرات على توقفها، وكذلك الحرب على الجبهة الشمالية، تشتد كل يوم وتتصاعد وتتضاعف أهدافها. تحت ضغط القتال على الجبهتين…

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…

الغرب والعرب: لرئيس يقود الثّلاثيّ لانتزاع وقف الحرب

يتصرّف العديد من عواصم القرار، في مقدَّمها واشنطن، على أنّ وقف النار في لبنان لم يحن وقته بعد. المداولات التي جرت في الأسابيع الماضية عزّزت…

نهاية يحيى: إنسانٌ “غيبيّ”… هَزَمَهُ العلم

لطالما كانت النهايات اختصاراً مكثّفاً للبدايات والخيارات التي يتّخذها كلّ واحدٍ منّا، خصوصاً نهايات الأشخاص الاستثنائيين. أولئك الذين يسرقون الأضواء، أو تسرقهم. كأن “ينتهي” مايكل…