لماذا من المهمّ انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة؟ لسبب واحد على الأقلّ. يتمثّل هذا السبب في أنّ انتخاب رئيس سيعني أنّ تغييراً ما حصل في لبنان من جهة، وأنّ هناك مؤشّراً إلى بداية النهاية لهيمنة الحزب، وبالتالي لهيمنة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على البلد، من جهة أخرى. أكثر من ذلك، سيعني ذلك أنّ إيران بدأت تدفع ثمن فتح جبهة الجنوب مع إسرائيل، أي ثمن الكارثة التي تسبّبت بها للبنان وللّبنانيين ولأهل الجنوب والبقاع والضاحية، خصوصاً من أبناء الطائفة الشيعية. سيعني ذلك أيضاً أنّ الحروب التي فتحتها إيران على هامش حرب غزّة بدأت ترتدّ عليها.
أكثر من أيّ وقت تصرّ إيران على استخدام ورقة لبنان غير مدركة أنّ الخدمة الوحيدة التي تستطيع تقديمها للبلد تتمثّل في السماح بانتخاب رئيس للجمهورية، وذلك كي يتسنّى للبنان الانصراف إلى الاستحقاق الكبير المترتّب على وجود ما يقارب مليوناً ونصف مليون مهجّر من بيوتهم وقراهم وبلداتهم وقراهم.
بدل التعاطي مع الواقع اللبناني، تبدي “الجمهوريّة الإسلاميّة”، عبر “الحرس الثوري”، تمسّكاً بلبنان وبتقرير مصيره
بدل التعاطي مع الواقع اللبناني، تبدي “الجمهوريّة الإسلاميّة”، عبر “الحرس الثوري”، تمسّكاً بلبنان وبتقرير مصيره من خلال معرفتها أنّ التنازل في موضوع رئاسة الجمهوريّة بداية لتنازلات أخرى وصولاً إلى عودة لبنان إلى بلد ذي عمق عربي وليس مجرّد مستعمرة إيرانيّة.
يفسّر ذلك الإصرار على مجيء رئيس مجلس الشورى (رئيس مجلس النواب) محمّد باقر قاليباف إلى بيروت حاملاً رسالة من “المرشد الأعلى” علي خامنئي إلى رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي ظهرت إشارات، من خلال الكلام الصادر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إلى رغبة في لعب دور إنقاذي على الصعيد الوطني بدل البقاء في أسر الوصاية الإيرانيّة المفروضة على الثنائي الشيعي وعلى لبنان كلّه.
قاليباف: ملفّ الحزب ولبنان لدى إيران
كان لافتاً حضور قاليباف، الضابط الكبير في “الحرس الثوري”، إلى بيروت بُعيد زيارة لوزير الخارجية عبّاس عراقتشي. تبدو الرسالة التي حملها المسؤول الإيراني الكبير في غاية الوضوح. فحوى الرسالة أنّ ملفَّي لبنان والحزب، الذي استطاعت إسرائيل القضاء على معظم قياداته، صارا لدى “الحرس الثوري” ولا تغيير من أيّ نوع في كيفية التعاطي مع لبنان.
لا يزال الحزب، ومن خلفه إيران، يرفض أخذ العلم بما حصل على الأرض نتيجة الجريمة التي حصلت، أي جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة
لا مفرّ من العمل الجدّي من أجل بدء التغيير من مكان ما. يصعب التكهّن بقدرة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة على أن تكون في مستوى التحدّي، علماً أنّ التغيير حصل على الأرض. بمعنى أنّ لبنان ما قبل فتح جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول 2023، ليس لبنان ما بعد ذلك اليوم. خسر الحزب الحرب مع إسرائيل. لا بدّ من ثمن على إيران دفعه حتّى لو كانت ترفض ذلك… وحتّى لو كانت مصرّة على منع رئيس مجلس النواب من فتح أبواب البرلمان.
لا يزال الحزب، ومن خلفه إيران، يرفض أخذ العلم بما حصل على الأرض نتيجة الجريمة التي حصلت، أي جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة. أزالت إسرائيل غزّة من الوجود في غياب القدرة على الانتهاء من “حماس”. ما الذي استفادته غزّة من حرب “الإسناد” التي شنّها الحزب معتقداً أنّ حرب غزّة لن تطول وأنّه سيكون قادراً على جني ثمارها مثلما جنى، مع إيران، ثمار حرب صيف 2006؟
من الضروري، أكثر من أيّ وقت، التفكير في مرحلة ما بعد الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران على الأرض اللبنانيّة
انتخاب الرّئيس بداية التّغيير
من الضروري، أكثر من أيّ وقت، التفكير في مرحلة ما بعد الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران على الأرض اللبنانيّة. في النهاية، تفرّغت إسرائيل للبنان. ليس انتخاب رئيس للجمهورية سوى نقطة انطلاق لمحاولة إعادة تشكيل السلطة السياسية بديلاً من رفع الشعارات التي لا تزال بقايا الحزب تطلقها بتوجيه إيراني. من بين هذه الشعارات أن لا تفاوض قبل وقف النار، و”نحن قوم لا نتخلّى عن أسرانا”. يفترض في “الجمهوريّة الإسلاميّة” إدراك أنّ الحزب الذي أقامته في لبنان لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، وأن لا أفق سياسياً لحرب لبنان بغضّ النظر عمّا إذا كان في استطاعة ضبّاط “الحرس الثوري” إدارة تلك الحرب بطريقة أفضل من تلك التي كان يديرها كبار الضبّاط والمسؤولين الأمنيّين في الحزب الذين قضت إسرائيل على معظمهم.
مرّة أخرى، في ما يخصّ الحروب والمعارك السياسيّة، أن يعرف المرء كيف يخسر أهمّ بكثير من أن يعرف كيف يربح. المعروض اليوم من المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، في شأن كيفية تنفيذ القرار الرقم 1701، وإن كان بشكل مذلّ، أفضل بكثير من ذلك الذي سيعرضه في زيارته المقبلة… هذا إذا كانت مثل هذه الزيارة واردة. ليست أمام لبنان خيارات كثيرة. يتوجّب على ما بقي من الطبقة السياسيّة فيه امتلاك شجاعة التفكير في مرحلة ما بعد خلوّ البلد من سلاح الحزب الإيراني. لا يزال انتخاب رئيس للجمهورية يليق بلبنان ويعرف شيئاً عمّا يدور في المنطقة والعالم، البداية الصالحة للخروج من مأزق كبير يهدّد بالقضاء على البلد. اسم هذا المأزق ملفّ النازحين الذي بات قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أيّ لحظة.
إقرأ أيضاً: فلسطين أم خيبر؟! لبنان أم كربلاء؟!
يبدو الخيار الإيراني واضحاً. إنّه بين التمسّك بورقة لبنان والشعارات الفارغة التي يطلقها الحزب، مع ما سيعنيه ذلك من قضاء على البلد، بما في ذلك الشيعة فيه، من جهة… وبين تسهيل انتخاب رئيس للجمهوريّة كنقطة بداية، لا أكثر، لمرحلة جديدة محورها سؤال في غاية البساطة: هل في الإمكان إعادة تشكيل الطبقة السياسيّة، بل إعادة تشكيل لبنان؟