نيران الحقد: من “مستقبل” بيروت… إلى mbc العراق

مدة القراءة 6 د

يمثّل إحراق محطّة “mbc” العراق قبل أيّام امتداداً لإحراق تلفزيون المستقبل إبّان “غزوة 7 أيار 2008″، ويتّسق مع الملاحقة المستمرّة للإعلاميين والصحافيين ورموز الفكر والثقافة، إمّا اضطهاداً عبر القضاء وتلفيق التهم، وإمّا اغتيالاً لإسكات صوت “ربيع دمشق” سمير قصير، وطمس “دراسات” هشام الهاشمي، و”ذاكرة” لقمان سليم.

كلّ هذه الأعمال “الغوغائية” يقف خلفها فاعل معنويّ واحد هو “محور الممانعة” الإيراني، بأذرعه الضاربة في أعماق لبنان والعراق وسوريا واليمن. وإن اختلفت أسماء الفاعلين الحقيقيين أو جرى تجهيلها أو تبرئتها، فما هم إلا أدوات تستخدمها إيران لتفرض سيادة الفكر الشمولي وقاموسه الاستبدادي، من الخطاب الإعلامي إلى السياسة التحريرية، وصولاً إلى نوعية المصطلحات التي يجب استخدامها. والهدف من وراء ذلك ترهيب الإعلاميين وأصحاب الفكر المعارض، وتدجين وسائل الإعلام، من أجل مزج التنوّع الإعلامي وصهره في قالب واحد، تماماً كما هو الحال في إيران تحت حكم الملالي.

يمثّل إحراق محطّة “mbc” العراق قبل أيّام امتداداً لإحراق تلفزيون المستقبل إبّان “غزوة 7 أيار 2008”

تغطية قانونيّة للجريمة

افتُعل إحراق “mbc” العراق “دفاعاً عن المقاومة وأبطالها”، كما جرى افتعال 7 أيار 2008، ذاك “اليوم المجيد” بلغة الحزب وجمهوره، الذي ما يزال يمجّد حتى اللحظة، بذريعة حماية المقاومة ومنظومة اتصالاتها. في حين أظهرت الحرب الناشبة حالياً على أرض لبنان أنّ عملاء إسرائيل هم داخل بنية الحزب القيادية، بما يتيح لها معرفة ما يجهله أغلب اللبنانيين، بما في ذلك حاضنة الحزب الشعبية.

السكوت عن إحراق “mbc” العراق وملاحقة الصحافيين من معارضي محور الممانعة ليس سوى صكّ براءة يمنح أذرعه وفرقه “الغوغائية” موافقة ضمنية على ارتكاب المزيد واستهداف كلّ صوت معارض ليصير هذا الأمر عرفاً تستند إليه كلّ جهة لا تعجبها مادّة إعلامية. لا يعني ذلك الموافقة على التقرير الذي بثّته المحطّة. لكن ما هو إلا ذريعة لعمل مبيّت سلفاً، حسبما يشير تقاعس السلطات العراقية عن حماية مبنى المحطة، على الرغم من أنّ منصّات التواصل الاجتماعي، داخل العراق وخارجه، كانت تضجّ بالأخبار التي تحرّض على ارتكاب هذا الفعل المشين.

كان بإمكان الحكومة العراقية تدارك الأمر واستيعاب ردود الأفعال عبر اتّباع الخطوات التي تنصّ عليها اللوائح القانونية، من التنبيه إلى الإنذار والعقوبات، التي لا تتّسق كثيراً مع حرّية التعبير، إلا أنّها تبقى أفضل بكثير من إفساح المجال أمام تفجير الأحقاد والضغائن.

الأسوأ من ذلك خروج هيئة الإعلام والاتّصالات العراقية “CMC” المسؤولة عن الإعلام بقرار “وقف بثّ قناة “mbc” العراق وإلغاء رخصة العمل الممنوحة لها”، إنّما بعد حرقها.. والذريعة هي انتهاكها لـ”لوائح البثّ الإعلامي من خلال تجاوزاتها المتكرّرة وتطاولها على الشهداء قادة النصر وقادة المقاومة الأبطال الذين يخوضون معركة الشرف ضدّ الكيان الصهيوني الغاصب”، بما يعني تغطية حكومية قانونية لإحراق المحطّة.

السكوت عن إحراق “mbc” العراق وملاحقة الصحافيين من معارضي محور الممانعة ليس سوى صكّ براءة يمنح أذرعه وفرقه “الغوغائية” موافقة ضمنية على ارتكاب المزيد

خلع رداء الدّولة

تجدر الإشارة إلى أنّ التقرير الذي استُخدم ذريعةً لتنفيذ العمل التخريبي يحمل عنوان “ألفيّة الخلاص من الإرهابيين”، وعُرض ضمن برنامج “mbc في أسبوع”. واعتبر كلّاً من الأمين العامّ للحزب وقادة حركة حماس صالح العاروري وإسماعيل هنية ويحيى السنوار إرهابيين. لكنّه لم يعرض على شاشة “mbc” العراق، أي أنّ المحطّة لم تنتهك القوانين العراقية، ولم تخرق مناخ التضامن الشعبي مع المقاومة. زد على ذلك الحديث عن “التجاوزات المتكرّرة”: أين هي هذه التجاوزات؟ ولماذا لم يتمّ تحديدها؟ وهل قامت “CMC” بتوجيه إنذارات إليها في وقت سابق؟

علاوة على ذلك، كان بإمكان الحكومة العراقية، أو “CMC”، التواصل مع السعودية المستهدف الأساسي بهذه الرمية “الغوغائية”، كما تدلّ على ذلك ردود الأفعال الداعمة لهذا العمل، من أجل تدارك الموقف. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. المفارقة أنّ العراق يرأس الدورة العادية لـ”مجلس وزراء الإعلام العرب” لعام 2025. وقد فاز بها للمرّة الأولى في تاريخه في أيار الماضي خلال اجتماعات “الدورة الـ54 لمجلس وزراء الإعلام العرب” في العاصمة البحرينية المنامة، وأكّد خلالها رئيس “CMC” الدكتور علي المؤيد في كلمته أنّ “العراق سيعمل على تعزيز التعاون الإعلامي العربي وتطويره بما يخدم مصالح الشعوب العربية وقضاياها العادلة”. فهل يكون التعاون بهذا الشكل؟ وكيف يمكن لوسائل الإعلام أن تستجيب للدعوات التي أطلقها المؤيد للعمل في العراق وهي غير آمنة على مقرّاتها وأطقمها؟

التقرير الذي استُخدم ذريعةً لتنفيذ العمل التخريبي يحمل عنوان “ألفيّة الخلاص من الإرهابيين”، وعُرض ضمن برنامج “mbc في أسبوع”

والحال أنّ ما حصل يعدّ سقطةً سياسية كبيرة لحكومة محمد شياع السوداني في امتحان إعادة الاعتبار للدولة العراقية عبر إيجاد “مسافة آمنة” بينها وبين الأذرع الميليشياوية الإيرانية التي تهيمن على قرار بغداد، ولا سيما مع مسارعة علي المؤيد، الذي تمارس الهيئة التي يرأسها صلاحيات وزارة الإعلام، إلى خلع رداء الدولة وإظهار عصبيّته، حيث يرتبط بصلة قرابة مع زعيم “تيار الحكمة” عمّار الحكيم، وهذه الصلة كانت جواز عبوره إلى منصبه الحالي.

كيف تجاوبت السعودية؟

كانت “الهيئة العامة لتنظيم الإعلام في السعودية” أعلنت عن “إحالة مسؤولين في إحدى القنوات التلفزيونية للتحقيق على خلفية تقرير إخباري مخالف للأنظمة والسياسة الإعلامية للمملكة”. وأكدت الهيئة أنها “تتابع باستمرار مدى التزام وسائل الإعلام بالأنظمة الإعلامية للمملكة وضوابط المحتوى، ولن تتهاون في تطبيق النظام تجاه أي مخالفة”.

إبّان “غزوة 7 أيار 2008″، أحرقت عصابات الممانعة “تلفزيون المستقبل”، و”جريدة المستقبل”، وأسكتت صوت “إذاعة الشرق”. لم تحاول وقتها وسائل الإعلام التابعة للحزب أو تلك التي تسبّح بحمده أن تلطّف الحدث، بل اتّخذت موقفاً أكثر راديكالية مظهرة الشماتة الممزوجة بتلفيق مزاعم عن إخراج أسلحة من داخل مبنى المستقبل. تلك الأسلحة لم تكن سوى الأرشيف الثريّ للقناة الذي تربّت عليه أجيال، في أوضح تعبير عن مدى الحقد الذي يعتمر في عقول مشحونة بموجات عالية من خطاب الكراهية.

إقرأ أيضاً: هوكستين في رحلته الأخيرة: لقد قلت لكم.. ولم تصدّقوا

الأمر نفسه يتكرّر اليوم مع محطّة “mbc” العراق، ويمثّل مقدّمة لحوادث مشابهة قد تحدث في قادم الأيام، مع ارتفاع موجات خطاب الكراهية والتحريض إلى مستويات خطيرة، بدأت تترجم بملاحقات قضائية كيديّة وضغوط تمارس على الحكومة اللبنانية للضرب بيد من حديد.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفرق بين “المجد لكاتم الصوت”، الجملة التي كتبت على جدران منزل لقمان سليم قبل قتله في لبنان، وبين تخوين جبران تويني تمهيداً لاغتياله في بيروت، وبين اغتيال الجميلة والرصينة شيرين أبو عاقلة وعشرات الصحافيين الفلسطينيين على يد العدوّ الإسرائيلي؟ هل ثمّة فرق بين سعي إيران وإسرائيل إلى ليّ عنق الرواية الإعلامية وتطويعها في خدمة “البروباغندا”؟

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…