أن يعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي*، في خطوة غير متوقّعة في هذه المرحلة، إغلاق القناة العمانية لتبادل الرسائل بين إيران والولايات المتحدة، هو اعتراف بأنّ هذه القناة لم تكن محصورة بالرسائل المرتبطة بالملفّ النووي والحوارات المرتبطة به. وبالتالي قرار تعليق أو إقفال هذه القناة وترك مسألة إعادة تفعيلها رهن تطوّر الأحداث التي تشهدها المنطقة يعنيان أنّ كلا الطرفين الأميركي والإيراني تركا للميدان، خاصة الساحة اللبنانية، مسألة تحديد مسارات الموقف وحجم ومدى التعاون بينهما.
أمام ما تشعر به القيادة الإيرانية من خديعة أميركية استمرّت على مدى الأشهر الماضية، حسمت خياراتها وقرّرت اعتماد مسار تصعيدي في مواقفها، والتخلّي عن المسار الدبلوماسي، خاصة بعد الضربة القاسية التي لحقت بمشروعها جرّاء اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصرالله ومجموعة من كبار القادة العسكريين، إلى جانب شخصيات مفصلية وأساسية من قيادات حرس الثورة الإسلامية، وآخر كوادر العقل الاستراتيجي للحرس الجنرال عباس نيلفروشان.
خامنئي يصوّب الموقف الإيرانيّ
بالعودة إلى الخطاب الأخير للمرشد الأعلى للنظام الإيراني السيد علي خامنئي في صلاة الجمعة قبل أسبوعين، فقد أعاد هذا الخطاب تصويب الموقف الإيراني من الأحداث التي تشهدها الساحتان اللبنانية والفلسطينية خاصة، ومنطقة غرب آسيا عموماً، عندما حمّل الولايات المتحدة المسؤولية المباشرة عمّا يجري في المنطقة لأنّ الحرب الإسرائيلية يديرها البيت الأبيض مباشرة، وإسرائيل ليست سوى أداة لتنفيذ هذه الأهداف الأميركية.
على مدى الأشهر الماضية، لعب مسار مسقط للتفاوض غير المباشر بين واشنطن وطهران دوراً في تأخير الردود الإيرانية على الاعتداءات الإسرائيلية التي طالت ومسّت الأمن والسيادة القوميَّين الإيرانيَّين بالصميم، وسمح التأخّر في الردّ على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في العاصمة الإيرانية للجانبين الأميركي والإسرائيلي بالتمادي والانتقال إلى تنفيذ اغتيال السيّد نصرالله في بيروت.
على الرغم من تأكيد الوزير الإيراني عدم رغبة بلاده في توسيع الحرب في الإقليم وتحويلها إلى حرب شاملة، فإنّه يحاول الضغط على واشنطن
يأتي القرار الإيراني بوقف قناة التواصل غير المباشر بعد مشاورات ومباحثات أجراها الوزير الإيراني مع نظيره العماني بدر البوسعيدي في مسقط في إطار الجولات الدبلوماسية التي يجريها عراقتشي في العواصم الإقليمية، والتي ترافقت مع لقاء جمعه مع مسؤول ملفّ التفاوض اليمني عن الجانب الحوثي محمد عبد السلام في رسالة واضحة بأنّ طهران قرّرت التخلّي عن السياسات التي اعتمدتها في السابق وانتظرت خلالها خطوة أميركية لتنفيذ الوعود التي قدّمتها بالعمل الجدّي للضغط على الجانب الإسرائيلي وحكومة نتنياهو لفرض وقف إطلاق نار على الجبهتين اللبنانية وقطاع غزة.
قرارٌ تحسّباً للخديعة
جاء هذا القرار بعد الانتهاء من التحضيرات التي أجرتها المؤسّسة العسكرية الإيرانية لمواجهة أيّ تصعيد محتمل قد تلجأ إليه تل أبيب وإمكانية القيام بعملية عسكرية على المنشآت الإيرانية. وأخذت هذه الاستعدادات بعين الاعتبار إمكانية حصول خديعة أميركية جديدة، وأن تكون المنشآت النووية والنفطية هدفاً للعملية العسكرية على العكس ممّا تسرّبه واشنطن من ضغوط على نتنياهو بحصر الردّ والاستهداف بالمنشآت العسكرية والأمنيّة.
ربّما أهمّ المحرّكات أو الدوافع وراء القرار الإيراني هو الإحساس بأنّ الأميركي ما يزال يمارس الخداع نفسه الذي مارسه على مدى الأشهر الماضية، وليس قرار تزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ “ثاد” المتطوّرة، التي تستخدم لصدّ الهجمات الصاروخية البالستية المتطوّرة في الفضاء وخارجه، سوى إعلان أميركي بالدخول إلى جانب الإسرائيلي في حرب مباشرة ضدّ إيران، والهدف من هذا القرار هو تقييد الأيدي الإيرانية في الردّ على أيّ هجوم إسرائيلي في المستقبل.
أمام ما تشعر به القيادة الإيرانية من خديعة أميركية استمرّت على مدى الأشهر الماضية، حسمت خياراتها وقرّرت اعتماد مسار تصعيدي في مواقفها
على الرغم من تأكيد الوزير الإيراني عدم رغبة بلاده في توسيع الحرب في الإقليم وتحويلها إلى حرب شاملة، فإنّه يحاول الضغط على واشنطن لممارسة المزيد من المصداقية والضغط للعمل على وقف إطلاق نار جدّي على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية. إلا أنّ القيادة الإيرانية بكلّ مستوياتها قرّرت رفع مستوى التصعيد في المواجهة مع الإدارة الأميركية والمؤسّسة العسكرية الإسرائيلية وإيصال رسالة بأنّ المحور الذي تقوده ما يزال في أفضل أحواله وقادراً على تغيير المعادلات وفرض المعادلات التي يريدها، خاصة بعدما استطاع الحزب في لبنان الخروج من تداعيات الضربة التي تعرّض لها باغتيال أمينه العام وقياداته العسكرية والآثار السلبية لعملية تفجير أجهزة الاتصال أو “المجزرة” حسب التوصيف الرسمي لها من قبل الحزب، واستطاع ترميم قيادته السياسية والعسكرية واستعاد آليّات القيادة والسيطرة وانتقل إلى مستوى متقدّم من المواجهة المفتوحة على جميع الاحتمالات الجغرافية والميدانية.
في هذا الإطار، أكّد المسؤولون الإيرانيون أنّ أيّ اعتداء أو عملية عسكرية ضدّ الداخل الإيراني لن تبقي لدى طهران أيّ خطوط حمر في الردّ، وستعتبر أيّ اعتداء عليها أو هجوم بمنزلة تهديد وجوديّ لمشروعها، وبالتالي فهي على استعداد لأخذ المنطقة إلى خيارات لا يرغب بها أحد.
قطع قنوات التواصل غير المباشر مع الولايات المتحدة يعني إيرانياً قطع أيّ تواصل مع الجهات الدولية التي تضغط على طهران من أجل التدخّل وإجبار حليفها الحزب على القبول بالشروط الأميركية والغربية لوقف إطلاق الصواريخ والمسيّرات إلى العمق الإسرائيلي، والموافقة على المقترحات الدولية لتطبيق القرار 1701 بالشروط التي كتبتها واشنطن وإسرائيل، والتي تعني في رؤية إيران والحزب التخلّي عن ربط المسارات بين جبهتَي لبنان وغزة والوقف المتزامن لإطلاق النار، وبالتالي سيكون القبول بذلك إعلان هزيمة مبكرة واستسلاماً من قبل المحور كلّه.
*وفقاً للّفظ الفارسي، عراقتشي هو لقب وزير الخارجية الإيراني وليس عراقجي كما هو سائد في وسائل الإعلام.