رحل الشاعر شوقي أبو شقرا. ودّع رائد الحداثة والجمال اللغويّ الدنيا بعد معاناة مع القلب استمرّت حوالي شهر وبضعة أيام. في هذه الأسطر محاولة للإضاءة على حياته وسيرته علّها تفيه حقّه.
عام 2000، أصدر شوقي أبو شقرا كتاباً يضمّ مجموعة مقالات كان قد نشرها في مراحل مختلفة في الصفحة الثقافية لجريدة النهار. الكتاب يحمل عنواناً لافتاً: “سائق الأمس ينزل من العربة”. لكنّ سائق الأمس، وليس جديراً بهذا اللقب أحد غير شوقي أبو شقرا، لم يعلم أنّ رحلة النزول ستستغرق 24 عاماً.
على الأرجح كانت ثمّة وجهة بعد يريد أن يأخذنا إليها قبل أن يمضي إلى الخلود، إلى حيث يرحل أمثاله. حاول قدر الإمكان إطالة أمد النزول، لكنّ ما يحدث في لبنان وحوله وعليه شاء غير ما يشاء، لذا لملم أوراقه وقلمه ومضى.
رحل الشاعر شوقي أبو شقرا. ودّع رائد الحداثة والجمال اللغويّ الدنيا بعد معاناة مع القلب استمرّت حوالي شهر وبضعة أيام
مكان واحد وزمانان مختلفان
كان صعباً أن يعيش الراحل في مكان واحد، أي لبنان. عاش زمانين مختلفين: زمن الحرب وزمن شوقي أبو شقرا. زمن لا يتّسع لأيّ آخر وزمن فيه كلّ آخر ومختلف. زمن تملأ سماءه وفضاءه وأرضه وسهوله وجباله وبحره الصواريخ والقذائف والانفجارات والطائرات العسكرية، وزمن يعجّ بالشعر والقصائد والمقالات والنصوص والكتب ودور النشر والإذاعات والمجلّات والجرائد.
زمن تتهدّم فيه المباني والبيوت ويُقتَل فيه الأبرياء، وزمن تتهدّم فيه البنى التقليدية والرجعية في الشعر والنثر والثقافة والاجتماع والسياسة ويولد فيه الناس من جديد. زمن يعجّ بالفرق والميليشيات العسكرية والحركات الدينية، وزمن تملأ فيه الدنيا الحركات الثقافية والشعرية المجدّدة والطليعية. حقّاً لا يعرف المرء من يرثي اليوم: شوقي أبو شقرا أو لبنان!
ليس غريباً أن يرحل عنّا شوقي أبو شقرا اليوم، بل الغريب ألّا يرحل. ولا يتعلّق الحديث هنا بعمر أو بمرض أو بشيخوخة، فأبو شقرا وُلد طفلاً وعاش طفلاً، وطفلاً مات. وما النظّارات والتجاعيد والصلعة إلا للتمويه عن طفل عاش بيننا ونظّر لنا، وكان حتى أمس، سائق الأمس، الأمس الذي كان نهضتنا وزمننا الجميل وعصرنا الذهبي.
هو كان يقود عربة الثقافة والأدب والشعر. عربة الوطن الحقيقية. يأخذنا إلى أماكن في وطننا، خاصةً في ريفه. هذه الأمكنة كان متعذّراً علينا أن نزورها أو نذهب إليها إلّا برفقته. وكان يأخذنا إلى أماكن في نفوسنا عصيّة على من ليسوا أطفالاً طاعنين في العمر والشعر والثقافة والصحافة والتجارب، نثراً كانت أم شعراً أم عرقاً ولحماً ودماً.
كان صعباً أن يعيش الراحل في مكان واحد، أي لبنان. عاش زمانين مختلفين: زمن الحرب وزمن شوقي أبو شقرا
رائد فضاءات ثقافيّة
كان شوقي أبو شقرا أوّل من كتب قصيدة النثر ولمع فيها، وهي القصيدة التي صارت عنوان الشعر منذ منتصف القرن الماضي، ولمعت في كتابتها أسماء كثيرة لا تزال ترصّع سماء الشعر والثقافة وسماءنا: من أدونيس إلى أنسي الحاج وبينهما أسماء عربية بارزة.
ديوانه “ماء إلى حصان العائلة” سيبقى عنواناً بارزاً لقصيدة النثر لسنوات طويلة. وريادة أبو شقرا في قصيدة النثر لم تكن إلا بعد إثباته جدارته في ما سبقها من مبانٍ وأشكال شعرية. أي أنّه برع في كتابة الشعر العمودي كما في كتابة شعر التفعيلة التي أنجز فيها قصائد مختلفة عن قصائد روّادها العراقيين عبد الوهاب البيّاتي وبدر شاكر السيّاب وغيرهما. أمّا نثره فشعر آخر لا يقلّ جمالاً وفرادةً وفُجاءةً عن شعره.
لم يكن شوقي أبو شقرا فاعلاً في قلب القصيدة فحسب، بل كان فاعلاً في كلّ ما هو خارجها، ويمتّ إليها بصلات قويّة. كان فاعلاً ثقافياً وناشطاً، إذ أسّس “حلقة الثريا” مع جورج غانم، وإدمون رزق، وميشال نعمة. كما كان من مؤسّسي مجلّة “شعر”. ويعدّ أبو شقرا من أبرز أركانها بجانب أدونيس، ومحمد الماغوط، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وكان شوقي سكرتير تحريرها.
كان شوقي أبو شقرا أوّل من كتب قصيدة النثر ولمع فيها، وهي القصيدة التي صارت عنوان الشعر منذ منتصف القرن الماضي
لم يتوقّف نشاطه أو ينحصر في “حلقة الثريا” ومجلّة “شعر” وحركة الترجمة التي واكبت الأخيرة وكانت في صميم مشروعها، حيث ترجم أبو شقرا نصوصاً لرامبو، ولوتريامون، وأبولينير، وريفيردي وغيرهم، بل ساهم مساهمة فاعلةً في الصحافة اللبنانية التي عمل فيها جلّ حياته، إذ أسّس أوّل صفحة ثقافية لبنانية في جريدة النهار، وكانت رائدةً في مجالها وبقي يتولّى مسؤوليّتها حتى عام 1999.
مرشد جماليّ ولغويّ
لم يكن أبو شقرا شاعراً وصحافياً ومترجماً ورائداً في قصيدة النثر فحسب، بل كان في ذلك كلّه أكثر بكثير، إذ أطلق عليه الشاعر محمد الماغوط لقب “المرشد الجمالي واللغوي لجماعة شعر”، ولغيرها من الجماعات والنصوص والقصائد.
إقرأ أيضاً: الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)
لكن على الرغم من حداثته وانخراطه في حركات حداثية ودعوته إلى التجديد دائماً، لم تخرج قصائده من إطار الريف. ريف لبنان الذي نشأ ونما فيه، وظلّت مفردات الأخير عالقةً في شعره وإن حملت معاني أوسع أو معاني سورياليةً.
وللمفارقة فإنّ أبو شقرا الذي كان أوّل، أو من أوائل، من كتبوا قصيدة النثر، والخلاف على الريادة حديث لا ينتهي، رحل وهو غير راضٍ عن مآلاتها الأخيرة ومصيرها.
مؤلم أن يموت شاعر في زمن السلم، فكيف إذا فعلها في زمن الحرب، في زمن لا يشبه زمانه ويشي بموت لا حدّ له ولا نهاية ولا حصر له؟
*وُلد شوقي أبو شقرا عام 1935، في بيروت، وعاش طفولته في رشميا ومزرعة الشوف بسبب عمل والده مجيد في سلك الدرك. سرعان ما فقد شوقي والده في سنّ العاشرة بسبب حادث سيارة، لكنّ الحادث هذا لم يحُل دون أن يكمل تحصيله العلمي ومسيرته الأدبية.
درس في دير مار يوحنّا في رشميا، ثمّ في معهد الحكمة في بيروت، وتخرّج فيه عام 1952.
لمتابعة الكاتب على X: