الوهم الإيرانيّ “القاتل”

2024-10-03

الوهم الإيرانيّ “القاتل”

تعتري المواقف الايرانية ازدواجية لا مثيل لها. تصرّح بالشيء وتفعل نقيضه. ما يهمّها هو مواصلة إيهام جمهورها الداخلي كما أتباعها في الخارج بأنّها تمتلك الإمكانيات. روّجت “للمكان والزمان المناسبين” فصدّقوها، وردّت عندما بدأوا يتشكّكون فيها. لكنّ هذا الردّ قد يشبع المؤدلجين للحظة، فيما الوقائع تؤكّد أنّ قدرات إيران انفضحت بهذا الردّ. فإذا كان “مسرحية” جديدة فهو فارغ، وإذا لم تكن “مسرحية” فقد أظهرت تباين القدرات بين إيران وإسرائيل.

 

أكثر من 200 صاروخ تمكّنت من تخريب محدود وإيقاع بضعة جرحى ليس إلّا، في مقابل قدرات إسرائيلية تنفّذ غارات “دقيقة” واغتيالات واسعة ليس آخرها اغتيال هنية ونصرالله وجريمة الـPagers وما بينهما وما بعدهما. تعلم إيران فعليّاً أنّ الحديث عن “قدراتها” ما هي إلا أوهام على أرض الواقع على كلّ الأصعدة العسكرية وتشعّباتها.

في مقابلة قبل أسبوع تقريباً مع شبكة “سي إن إن” الأميركية قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: “لا يمكن أن يواجه (الحزب) بمفرده دولة تدافع عنها وتدعمها وتزوِّدها بالإمدادات دول غربية ودول أوروبية والولايات المتحدة”. وتابع أنّ “الحزب وحده لا يستطيع أن يقف في وجه دولة مسلّحة تسليحاً جيّداً جداً، ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوّق بكثير على أيّ شيء آخر”.

الكلّ يعلم وإيران تعلم

للمفارقة، قبل أيام قليلة من كتابة هذا المقال خرج المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني ليقول إنّه لا حاجة إلى إرسال قوات إيرانية إلى لبنان وفلسطين، وإنّ الفصائل في لبنان وفلسطين لديها القدرة والقوّة اللازمتان للدفاع عن نفسها ضدّ الاعتداءات الإسرائيلية.

خرج كنعاني لينقض ما قاله الرئيس بزشكيان، إلا أنّ من المعلوم والمثبت، أقلّه أخيراً وفق سير الأحداث، أنّ الحزب لا يمكنه المواجهة وحيداً. الكلّ يعلم. وإيران تعلم. وتصريحات كنعاني ما هي إلّا “هروب من مساندة الحزب”.

أثبت الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، أكثر من مرّة خلال الفترة القصيرة من تسلّمه سدّة الرئاسة، أنّه الابن الوفيّ للنظام، وأنّ سقف مواقفه هو ما قد يخطّه المرشد

إذاً من الطبيعي التساؤل: ما دمتم على علم بأنّ الحزب لوحده لا يستطيع مواجهة إسرائيل، فلماذا دفعتم به إلى هذه الحرب الخاسرة؟ ولماذا دمّرتم لبنان من أقصاه إلى أقصاه وأنتم على علم بعدم تكافؤ قدرات الحزب وإمكاناته مع إمكانات العدوّ؟ ولماذا تورّطون بلدان المنطقة وشعوبها وأنتم على دراية تامّة بضعف بلدكم وجيشكم وحرسكم الثوري وبعدم استطاعتكم الانضمام إلى شعار “وحدة الساحات” (على الرغم من الـ250 صاروخ التي اعتبرتم أنّها ردّ على كلّ ما سلف مع أنّ تأثيراتها محدودة)؟

طوال 44 عاماً، وإيران تنشىء وتبني أذرعها وأدواتها في المنطقة، وتدعم تكويناتها بالمال والسلاح والعتاد، وتدرّب عناصرها وقياداتها، وتنمّيها وتبثّ فيها أيديولوجيتها الدينية والعقائدية، للوصول إلى هدف عملت عليه طهران وسمّته “وحدة الساحات”.

الاعتقاد الخاطئ لحماس

اعتقدت حماس أنّ إيران جزء من “وحدة الساحات”، فأقدمت على عملية “طوفان الاقصى” وهي على يقين بأنّها ستلاقي الدعم من إيران بكلّ أشكاله بما فيه الدعم العسكري. فخاب ظنّ حماس من “وحدة الساحات” بعدما مرّ عام تقريباً على تدمير الحجر والبشر في قطاع غزة، والقضاء على سلطة حماس في هذا الجزء من فلسطين.

وللإيهام بشعار “وحدة الساحات” الوهمي، دفعت إيران بالحزب للبدء بحرب “الإسناد والإشغال”. وكما حماس، اعتقد الحزب بدوره أنّ طهران جادّة وعلى استعداد تامّ لدعمه بكلّ ما للدعم من أشكال. فتبيّنت للحزب كلفة الحرب الباهظة وتحوّلها إلى حرب استنزاف مؤلمة له ولبيئته وحاضنته الشعبية وأهله، ولكلّ لبنان شعباً ووطناً، في حين أنّ حرب الإشغال والمساندة من لبنان لم تقدّم أيّ إضافة لحرب غزة.

رفض الحزب جميع الوساطات الفرنسية والأميركية والمصرية والقطرية لاعتقاده أنّه لن يُترك وحيداً من قبل إيران. إلا أنّ بزشكيان، تكريساً للمواقف الازدواجية الديماغوجية، صرّح من أميركا بأنّ “الحزب لا يستطيع لوحده مواجهة إسرائيل المدجّجة بكلّ أنواع الأسلحة والتكنولوجيا”.

اعتقدت حماس أنّ إيران جزء من “وحدة الساحات”، فأقدمت على عملية “طوفان الاقصى” وهي على يقين بأنّها ستلاقي الدعم من إيران بكلّ أشكاله

دفعت طهران بالحزب لدفع الثمن والكلفة المرتفعة الباهظة ولرفض جميع المقترحات الدبلوماسية بما فيها عدم تطبيق القرارات الأممية الملزمة، بينما بذات اللغة الازدواجية كان بزشكيان ووزير خارجيّته يمدّان اليد لـ”الشيطان الأكبر الأميركي”.

خامنئي والصّبر الاستراتيجيّ

في إيران، يناشد المرشد الإيراني علي خامنئي حكوماته المتعاقبة والرأي العامّ الداخلي كما أذرع إيران في المنطقة التحلّي “بالصبر الاستراتيجي”. ما إن اقتنعوا أو أوهِموا بأنّ “الصبر قوّة” وأنّ معيار الفوز على العدوّ هو منعه من التمادي وتحقيق أهدافه (على الرغم من التحفّظ على هذه النظرية التي تدحضها الوقائع) حتى فاتحهم من دون سابق إشارات مسجّلاً استدارة كاملة ومعلناً التراجع عن الصبر الاستراتيجي وتحويله إلى شعار “التراجع التكتيكي”.

يعني خامنئي (وهو العدوّ التاريخي المفترض لـ”الشيطان الأكبر”) أنّ لا مشكلة بالتفاوض مع الولايات المتحدة حول الملفّ النووي ودرجة التخصيب وكمّية اليورانيوم المخصّب، وما يتعلّق بكيفية رفع العقوبات نهائياً والحصول على ودائع والتفاوض على تصدير النفط وكميّاته وأسعاره ووجهته، والاتفاق حول تقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط.

أثبت الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، أكثر من مرّة خلال الفترة القصيرة من تسلّمه سدّة الرئاسة، أنّه الابن الوفيّ للنظام، وأنّ سقف مواقفه هو ما قد يخطّه المرشد، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية. وما إن وصل إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلن أمام الإعلام الأميركي والغربي استعداد إيران لخفض التوتّر مع إسرائيل ولوضع جميع أسلحتها جانباً، وعدم سعيها إلى زعزعة استقرار المنطقة، وأنّ إيران تريد السلام ولا تريد القتال.

الوقائع تؤكّد أنّ قدرات إيران انفضحت بهذا الردّ. فإذا كان “مسرحية” جديدة فهو فارغ، وإذا لم تكن “مسرحية” فقد أظهرت تباين القدرات بين إيران وإسرائيل

ومن باب توزيع الأدوار، ولتوجيه رسائل مزدوجة في آن (للإدارة الأميركية من ناحية، وللحرس الثوري في الداخل من ناحية أخرى)، تولّى وزير الخارجية عباس عرقجي تدوير زوايا تصاريح بزشكيان والتخفيف من وقع كلام رئيسه. وبرسالة مشفّرة إضافية إلى واشنطن والاتحاد الأوروبي نفى عباس عرقجي أن تكون طهران قد زوّدت روسيا بالصواريخ والأسلحة (على الرغم من أنّ بقايا هذه الصواريخ والمسيّرات الإيرانية المطبوع عليها كتابات فارسية تتناثر في أحياء كييف وباقي المدن الأوكرانية).

بين ازدواجية المواقف وازدواجية المعايير وبيع الأوهام للشعوب والمناصرين، تعلم إيران حجمها وقدراتها على كلّ الأصعدة، وتعلم أيضاً أنّ أيّ مواجهة جدّيّة لن تكون لمصلحتها لا بل ستنهيها.

إقرأ أيضاً: إيران تبيع أوراقها.. لتحفظ رأسها

كما يقول المثل “الماء تكذب الغطّاس”. ها هي إيران، تركت حماس وبعدها الحزب ليواجها مصيريهما. ألم يحن الأوان للاقتناع في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين وكلّ مكان آخر استغلّته طهران بأنّ الازدواجية الإيرانية وبيع الأوهام ما هما إلا أوهام مدمّرة لشعوب المنطقة دون غيرها فيما إسرائيل “تسرح وتدمّر” بدون أيّ رادع من إيران ولا من أذرعها؟!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@BadihYounes

مواضيع ذات صلة

غابت الأسطورة… “الإطار” باقٍ!!

في سيرة الأسطورة ثمّة لحظة واحدة هي لحظة كافية لولادتها، لحظة يصير فيها صاحبها أسطورة. في سيرة السيّد حسن نصرالله لحظاتٌ كثيرة. البعضُ يحدّدها في…

خمس حقائق في اغتيال السيّد

الجمعة 27 أيلول 2024 محطّة مفصليّة في تاريخ لبنان. تحاكي بأهمّيتها الثلاثاء 14 أيلول 1982 (اغتيال بشير الجميّل) والإثنين 14 شباط 2005 (اغتيال رفيق الحريري)….

إسرائيل… من التفوق إلى الجنون

دعونا نبدأ الحكاية من حزيران 1967، مع أن ما قبلها كان يشبهها، حيث عقدة التفوّق والقدرة العسكرية، استحكمت في نفوس الإسرائيليين وعقولهم لدرجة اليقين بأنهم…

هل يعرف لبنان كيف يخسر؟

لا يزال في استطاعة لبنان تفادي مواجهة واسعة مع إسرائيل ستكون بمنزلة كارثة عليه. لا فائدة من المكابرة التي يمارسها الحزب ما دامت توجد خطوط…