عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان بعدما وجّهت تطمينات إلى حافظ الأسد بأنّ الوجود السوري في لبنان غير مستهدف في العملية، وفق ما كشفت الوثائق البريطانية التي رُفعت عنها السرّية بعد 25 عاماً.
كان جوهر الصفقة اتفاق مصلحة الطرفين على التخلّص من الوجود العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وهذا خلاف ما كان يحلم به بشير الجميّل من أنّ الصفقة صفقته هو وحده، وأنّ إسرائيل ستخلّصه من الفلسطينيين والسوريين في آنٍ معاً.
بعد 42 عاماً، تعود إسرائيل إلى التراب اللبناني، وفي حسبانها أنّ الرئيس السوري بشار الأسد لن يكون حزيناً إذا تقوّضت القوّة العسكرية لـ “الحزب” المتغلغل في مفاصل الأمن والسياسة والديمغرافيا في سوريا.
لم يكن تدخّل “الحزب” في سوريا خياراً. كان قراراً استراتيجياً للحفاظ على السلسلة الذهبية الممتدّة من إيران إلى البحر المتوسط. لكنّه يدفع اليوم ثمن ذلك التمدّد. فقتاله هناك كشف منظومته التراتبية أمام الحلفاء والأعداء، من رأس الهرم إلى أدناه. وكانت كلّ جنازة لمقاتليه تقدّم للإسرائيليين معلومات وصوراً للوجوه التي تلتقطها الكاميرات.
بعد انتهاء الخطر العسكري، نشأ احتكاك بين الحزب والنظام، مردّه الأساس إلى انقلاب الأدوار، من نظام يسيطر على الحزب، إلى حزب يريد السيطرة على النظام.
النّظام السّوريّ والنّظام الديمغرافيّ
تحسّس النظام السوري من إنشاء حزام ديمغرافي في محيط دمشق، عبر استجلاب الشيعة من قرى ريف حلب وإدلب، والإلحاح على تجنيس المقاتلين من جنسيات أخرى. وتحسّس من عمليات شراء عقارات المهجّرين على نطاق واسع في ريفَي دمشق وحلب، بالاستفادة من “المرسوم رقم 4”. وتحسّس من سطوة رجال الحزب في قلب دمشق. حين كانت المعارك في ذروتها بين عامَي 2012 و2014، كان بعض منسوبي الحزب يقولونها في مجالس عامّة: “إنّ النظام لم يعد له وجود، وإنّنا نحن النظام”.
تحسّس النظام السوري من إنشاء حزام ديمغرافي في محيط دمشق، عبر استجلاب الشيعة من قرى ريف حلب وإدلب، والإلحاح على تجنيس المقاتلين من جنسيات أخرى
كان الحزب قبل ذلك حتى اغتيال رفيق الحريري عام 2005، يتحرّك تحت سقف تحدّده سوريا الأسد، في إطار تحالفها الاستراتيجي مع إيران. ويمكن الاستعانة بالصورة المتداولة لقادة “الحزب” مع غازي كنعان وهو مسترخٍ يدخّن النرجيلة، لفهم ميزان العلاقة في ذلك الزمن.
حين وقعت “حرب تموز 2006″، كان صمود الحزب يساوي صمود النظام السوري، فيما كان يعيش عزلة دولية إثر انسحابه من لبنان وتحمّله وحيداً ثمن اغتيال الحريري، (لم تكن تحقيقات المحكمة الدولية قد كشفت عن تورّط عناصر قيادية في الحزب في الجريمة).
العناصر الأربعة لأسطورة الحزب
في الأيام الأولى من الحرب، نفّذت إسرائيل ما سمّي بعملية “الوزن النوعي” لضرب مخازن صواريخ “الحزب”. وقد أقرّ الأمين العام الراحل لـ “الحزب” السيد حسن نصرالله في خطاب بعد سنوات بأنّ سوريا كان لها دور حاسم في إعادة بناء مخزون الصواريخ لدى الحزب. ولا شكّ أنّه لولا ذلك الإسناد السوري لما تمكّن “الحزب” من الاستمرار في إطلاق الصواريخ على حيفا وما بعد حيفا حتى الدقائق الأخيرة قبل إطلاق النار.
في 2024، تقع الجغرافيا السورية كلّها في مرمى الاستهداف الاستراتيجي. ولا يمكن تجاهل نوعية تلك الاستهدافات في الأشهر الأخيرة، وآخرها في مصياف والديماس. ومؤدّاها بالحدّ الأدنى أنّ خطوط الإمداد ليست آمنة، سواء كان ذلك بقرارٍ من دمشق أو بغضّ نظر منها، أو برضوخ لرسائل الإنذار التي وصلت إلى الأسد.
من الشاقّ جداً على الحزب أن يبدأ الحرب فيما دمشق تخوض استدارة استراتيجية هادئة، ربّما تشبه في وجهٍ من الوجوه لحظة 1982، وبوجهٍ آخر لحظة 1990، حين انضوى حافظ الأسد في التحالف الدولي الذي أخرج صدّام حسين من الكويت.
لم يكن تدخّل “الحزب” في سوريا خياراً. كان قراراً استراتيجياً للحفاظ على السلسلة الذهبية الممتدّة من إيران إلى البحر المتوسط
من المفارقات أنّ كلّ أدبيات “الحزب” تستعيد اليوم ما جرى عام 2006، وتفترض أنّ ميزان القوى يتحوّل لمصلحته في المعركة البريّة، وتتجاهل ما تغيّر من معطيات استراتيجية وعملياتية.
قامت أسطورة “الحزب” الذي لا يُقهر على أربعة عناصر قوّة تحدّى بها قيود الجغرافيا والديمغرافيا في لبنان:
– صلابة منظومة القيادة والسيطرة.
– عمق منظومة الإمداد، خصوصاً عبر سوريا.
إقرأ أيضاً: هل بإمكان الحزب ألّا يخسر الحرب؟
– إيمان القاعدة الشعبية بقدرته على الإنجاز.
– معرفة الأرض والمناعة ضدّ الاختراق المعلوماتي.
لمتابعة الكاتب على X: