سباقٌ حثيث ومضني بين وقف إطلاق النار واستمرار العدو الإسرائيلي في جرائم الإبادة الجماعية والتدمير والتهجير، فيما شكّلت الضربة الصاروخية في عمق الضاحية أمس منعطفاً حاسماً في سياق الحرب المفتوحة. فشلت الجولة الأولى من المفاوضات الدبلوماسية الدولية التي تقول مراجع رسمية لبنانية إنّها “لم تنتهِ بعد ولا تزال هناك فرصة لوقف الحرب، ولو مؤقّتاً، لكن لا نعلم كم سيكون الثمن الذي سندفعه حتى يحصل ذلك فعلاً”. فعليّاً، ثمّة مخاوف جدّية من دفع أثمان أكبر بالأمن وليس فقط بعدد الشهداء وتوسيع نطاق التهجير والخسائر المادّية والاقتصادية التي باتت بمليارات الدولارات.
داخليّاً، لا يزال الكابوس في أوّله وتكمن فظاعته في الهاجس من حصول حوادث أمنيّة ذات بعد طائفي ومذهبي. فقد كَثُر الحديث في الأيام الماضية عن “قنابل موقوتة” داخل مراكز الإيواء وفي الأحياء والمناطق ذات الكثافة السكّانية والطابع المذهبي على خلفية النزوح الاضطراري من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية.
حادثة زقاق البلاط
تقدّمت حادثة زقاق البلاط قبل أيام نموذجاً عن الأخبار العشوائية في مقابل الرواية الأمنيّة الدقيقة. يوم الأربعاء الماضي قَدمت مجموعة من النازحين الجنوبيين من إقليم التفاح إلى مناطق زقاق البلاط والخندق الغميق والباشورة بسبب وجود أقارب كثر لهؤلاء ضمن هذا النطاق في بيروت. فاستدلّوا من جهات غير حزبية إلى بناية في منطقة زقاق البلاط صدف أنّ صاحبها من الطائفة الدرزية وسبق أن تضرّرت في انفجار مرفأ بيروت ولا تزال تقريباً غير صالحة للسكن.
بعد رفض صاحب البناية استقبالهم حاولت المجموعة الدخول بالقوّة عبر خلع البوّابة الخارجية، فحضرت فوراً عناصر من حركة أمل والحزب والحزب التقدّمي الاشتراكي وحاولوا إقناعهم بعدم إمكانية السكن فيها بسبب عدم توافر مقوّمات الإقامة. سبق ذلك حضور عناصر من مخابرات الجيش وشعبة المعلومات وتمّ فوراً تطويق الحادث أمنيّاً.
تقدّمت حادثة زقاق البلاط قبل أيام نموذجاً عن الأخبار المضخّمة في مقابل الرواية الأمنيّة الدقيقة
أمّا بالسياسة فحصلت تدخّلات على مستوى عالٍ كانت حصيلتها طلب النائب السابق وليد جنبلاط مباشرة من صاحب البناية استقبالهم على أن يتمّ تزويدهم بالحاجات الأساسية.
المفارقة أنّ الحركة والحزب حاولا إقناع هذه المجموعة بالتوجّه صوب نقطة إيواء أخرى، لكن أصرّ الحزب الاشتراكي، ولاحقاً بعدما علم جنبلاط بالإشكال، على دخول هؤلاء إلى البناية والإقامة فيها تفادياً لاحتكاك شيعي – درزي.
… وفي رأس بيروت
قبل أيام أيضاً سَرَت إشاعات ليلاً عن حدوث مواجهة بين أبناء من رأس بيروت وعناصر مؤيّدة للحزب وصلت إلى حدّ التضارب وقطع طرقات كان النائب وضّاح الصادق من المروّجين لها.
في المقابل تقول الرواية الأمنيّة الموثّقة: قدمت مجموعة من الضاحية على متن درّاجات نارية مؤيّدة للحزب باتجاه الخطّ البحري. تفادياً لأيّ احتكاك وبالتنسيق مع أجهزة أمنيّة قامت مجموعة من شباب رأس بيروت وتمركزت احترازياً عند طلعة السفارة السعودية كي تبقى المسيرة المؤيّدة للحزب ملتزمة الخطّ البحري، وفي حال سلوك مسيرة الدرّاجات “طلعة السفارة” كان الهدف قطع الطريق على أيّ احتكاك أمنيّ محتمل خوفاً من عناصر مدسوسة. أكملت المسيرة طريقها المقرّر وسط انتشار لمخابرات الجيش عند النادي الرياضي وكامل المحيط من دون حصول إطلاق نار.
تجلّى المشهد المخزي الأكبر في عدم ملاقاة موجتَي النزوح العملاقتين بقنينة ماء لنازح أو توجيه من شرطي سير
المفارقة أنّه في الوقت الذي اعترف فيه السيّد حسن نصرالله بقساوة الضربة التي تلقّاها الحزب عبر تفجير أجهزة البيجر والأجهزة اللاسلكية وفي الوقت الذي تصرّ فيه قيادته على حصر الأضرار وعدم إعطاء المحفّز للحرب الكبرى بالتحييد المستمرّ للمدنيين الإسرائيليين، يُكابر بعض مؤيّدي الحزب ويمارسون عروضاً من الاستفزاز في غير مكانها وتوقيتها وداخل مناطق تحتضن النازحين.
بيروت ممسوكة أمنيّاً
تقول مصادر أمنيّة موثوقة لـ “أساس”: “نسمع الكثير من المغالطات والفبركات وأحياناً من جانب سياسيين، لكن على أرض الواقع لم يسجّل تحديداً في بيروت ما يمكن أن يُصنّف زعزعة للأمن أو مشروع فتنة. ومقارنة بحجم الكارثة يمكن بالتأكيد القول إنّ في بقع النزوح استقراراً أمنيّاً وإنّ الأرض مضبوطة”.
كما نلحظ حصول تنسيق ميداني على الأرض بين الأحزاب التي بالعادة تتصارع في السياسة، وذلك من أجل إيجاد أماكن إيواء للنازحين وتلبية الاحتياجات الأساسية، وهذا يُسهم أكثر في تهدئة الأرض، مع العلم أنّ الخلافات الفردية والمحدودة تحصل كلّ يوم لكنّها مضبوطة.
استنفار أمنيّ
تفيد المعطيات الأمنية أنّ الجيش حضر منذ بداية موجة النزوح في محيط المدارس الرسمية بشكل أساس لأنّها الوجهة الأولى للنازحين. وفيما احتلّت الحوادث الموضعية والمحدودة في بعض مناطق بيروت والجبل والشمال صدارة الأحداث وتساوت مع الأهمّية المعطاة للمواجهات العسكرية وفظاعات العدوّ الإسرائيلي في حصد الأبرياء وإبادة عائلات من جذورها، استنفر الجيش ومخابرات الجيش والأجهزة الأمنيّة من قوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات وأمن الدولة وقامت بما عليها لضبط الأرض قدر الإمكان ومكافحة المستثمرين في زمن الحرب.
مصادر أمنيّة موثوقة لـ “أساس”: نسمع الكثير من المغالطات والفبركات وأحياناً من جانب سياسيين، لكن على أرض الواقع لم يسجّل تحديداً في بيروت ما يمكن أن يُصنّف زعزعة للأمن أو مشروع فتنة
تعترف أوساط أمنيّة “بصعوبة تكهّن تدفّق هذا العدد الهائل من نازحي الجنوب والبقاع دفعة واحدة، لكنّ قرار إقفال السير باتّجاه الجنوب وفتح مسلكَي الأوتوستراد باتّجاه بيروت خفّف قليلاً من حجم المعاناة، سيّما أنّ أيّ شبكة طرق لا يمكن أن تتحمّل هذا التدفّق. الباقي طبعاً هو من مهام الهيئة العليا للإغاثة ولجنة تنسيق عمليات مواجهة الأزمات، فيما مهمّة الأجهزة الأمنيّة المواكبة وضبط الحوادث الأمنيّة”.
احتضان إنسانيّ ووطنيّ
الأمر المؤكّد أنّ حالة الاحتضان الوطنية عبّرت عن نفسها في أكثر من مكان وبأكثر من طريقة وطغت عليها المبادرات الفردية ومساهمات البلديات وبعض الجمعيات المحلّية. لا غبار على واقع وجود تفهّم شعبي واحتضان إنساني ملموس، حتى ممّن يناصرون العداء للحزب، لكتل بشرية وجدت نفسها بين ليلة وضحاها في العراء ومن دون مأوى في رحلة التهجير القاسية، وأثبتت الوقائع أن لا الحزب كان متحسّباً ومحتاطاً لهذه الكارثة الإنسانية ولا “خطّة الطوارئ” الرسمية كانت على قدّ الحِمْل، إذ على الرغم من كلّ المؤشّرات الجدّية إلى احتمال توسّع رقعة التصعيد، لم تتحسّب الحكومة لنزوح “أمطَر” دفعةً واحدةً بيروت والطريق الدولية على خطّ البقاع والشمال بأكبر موجة نزوح في تاريخ لبنان.
يتولّى قادة الأجهزة الأمنيّة القيام باتّصالات سياسية في سياق التخفيف من حدّة التوتّرات الأمنية، وبشكل خاصّ في بيروت وطرابلس
لا غرفة عمليّات
الملاحظ أنّه مقارنة بهول كارثة انفجار مرفأ بيروت يمكن تسجيل ملاحظة أساسية تكمن في عدم مبادرة قيادة الجيش إلى إنشاء غرفة عمليات مرادفة في ظلّ مرحلة هي الأخطر على لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية. فبعد انفجار المرفأ أُنشِئت قيادة عسكرية لمرفأ بيروت برئاسة العميد جان نهرا و”غرفة الطوارئ المتقدّمة” في بيروت بقيادة العميد سامي حويك، وكانتا موصولتين بغرفة العمليات في اليرزة، ولاحقاً بغرفة العمليات التابعة للجنة إغاثة بيروت Ground 0 وجمعيات الـNGO، وكانت مهمّة “غرفة الطوارئ” البحث والإنقاذ وإخلاء المصابين وجمع المعلومات ومسح الأضرار ومساعدة المنكوبين وتقديم المساعدات وتلقّي اتصالات المتضرّرين وصولاً إلى توزيع التعويضات المالية.
يقوم الجيش راهناً بمهمّاته العملانية والإنقاذية في المناطق، فيما يشهد مكتب قائد الجيش حركة زوّار وسفراء واتّصالات مع الخارج وتلقّي مساعدات، وحتى الآن لم يصدر “أمر اليوم” للعسكريين في ظلّ وضع بالغ الخطورة والدقّة.
وفق معطيات عسكرية، على الرغم من حالات الإخلاء الجماعية من مناطق جنوبية وبقاعية، لم يتمّ حتّى الآن إخلاء مراكز عسكرية
لا إخلاءات وأوامر بالدّفاع
منذ إقحام لبنان في حرب “مساندة غزة” وصولاً إلى بدء العدوّ الإسرائيلي شنّ حربه الجوّية على لبنان كان مفهوماً عدم قدرة الجيش على الدخول كطرف عسكري في المواجهة الدائرة بفعل عدم امتلاكه لقدرة الردع الصاروخية، لكن وفق معلومات “أساس” أعطيت الأوامر العسكرية فور حصول اجتياح برّي “بالدفاع عن الأرض والمراكز العسكرية بكلّ الإمكانات المتاحة”.
وفق معطيات عسكرية، على الرغم من حالات الإخلاء الجماعية من مناطق جنوبية وبقاعية، لم يتمّ حتّى الآن إخلاء مراكز عسكرية فيما اتُّخذت بعض الإجراءات الاحترازية وتمّ تخفيف عدد الدوريات، كما لم يتمّ تسجيل أيّ استهداف لثكنات ومواقع ومقارّ عسكرية.
اتّصالات سياسيّة
أمّا في المناطق المنكوبة جنوباً وبقاعاً وفي الضاحية الجنوبية وبيروت فحصل انتشار كثيف للجيش وتنفيذ لمهامّ استثنائية بإدارة غرفة العمليات العسكرية في اليرزة بقيادة العميد رودولف هيكل. كما تُرصد محاولات لتسهيل أمور المقيمين والنازحين وتسجيل حضور فوريّ، خصوصاً في مواقع الاغتيالات، والمواكبة الأمنيّة لتوفير مستلزمات أساسية كالحماية مثلاً لمصانع أو مستودعات يخاف أصحابها من فتحها، كما قال صاحب أحد المصانع في البقاع.
كما يتولّى قادة الأجهزة الأمنيّة القيام باتّصالات سياسية في سياق التخفيف من حدّة التوتّرات الأمنية، وبشكل خاصّ في بيروت وطرابلس التي تشهد العدد الأكبر من الحوادث.
نموذج الكحّالة
آخر النماذج استهداف قيادي في الحزب بمنطقة الكحّالة بصاروخ صامت وموجّه اخترق سيارته وأصابه إصابة بالغة وإلى جانبه أفراد عائلته.
إقرأ أيضاً: ماتوا… ممنوعين من الاعتراض
بدا استهداف هذا العنصر بهذه الطريقة وفي هذه المنطقة المسيحية تحديداً، وهي نقطة عبور أساسية على الطريق الدولية بين لبنان والحدود السورية، مسبوقاً بشائعات روّجت لها بعض وسائل الإعلام عن احتمال استهداف الكحّالة، بمنزلة حقن إسرائيلي خبيث في بوق الفتنة من ضمن أهدافه تأليب الرأي العامّ على الحزب و”طريق إمداداته”.
تفجير أجهزة مشبوهة
يُذكر أنّه بعد إعلان قيادة الجيش مراراً تفجير أجهزة pager وأجهزة اتّصال وأجسام مشبوهة، أعلنت قوى الأمن الداخلي أمس العثور على جهاز لاسلكي مشبوه في زقاق البلاط تمّ تفجيره على الفور.
لمتابعة الكاتب على X: