“أساس” يزور نازحي المدارس البيروتية… وشباب الحزب يعترضون

2024-09-24

“أساس” يزور نازحي المدارس البيروتية… وشباب الحزب يعترضون

هنا جولة في إحدى مدارس بيروت، التي فتحت أبوابها للنازحين من جنوب لبنان وبقاعه. وفيها محاولة لالتقاط بعض الحكايات، والوقوف على الأوجاع، ورواية بعضٍ من التغريبة الجديدة، التي تكرّر “الماضي الذي لا يمضي” وهم القلقون لأنّ الريح تحتهم..

تنفخ فاطمة السيدة الخمسينية سيجارتها متّكئة على مقعد دراسيّ في ثانوية رينيه معوض الرسمية في رمل الظريف، وعيونها حزينة. لا تقدر حتى على ردّ السلام. مئات النازحين من جنوب لبنان بسبب الحرب الدائرة بين إسرائيل والحزب، مثلها هنا.

احتلّ القلق مساحات عميقة في الجلد. الغضب يكاد ينفر من العيون الحزينة. كبار في السنّ، رُضّع، مراهقون، نساء وأطفال، كلّهم مشوّشون. منهم من نجا من غارات على الطرقات ويعيش صدمات النجاة بعد رؤية الموت بالعيون. وآخرون قلقون على أقاربهم وأهلهم ممّن بقوا في القرى والبلدات القابعة تحت النيران. اختفت ملامح البراءة عن وجوه الأطفال.

“لا أريد البقاء هنا، أريد العودة إلى منازلنا في تول في النبطية. هربنا إلى هنا لأنّ القذائف سقطت إلى جانب منزلنا. الحمد لله نجونا”، تقول زينب ابنة العشر سنوات بصوت متعب كأنّ الدهر خنقه بقسوته.

الإرباك سيّد الموقف

“لم أنم منذ يومين. هربنا من قعقعية الجسر (قضاء النبطية-جنوب لبنان) إلى بيروت بعد 16 ساعة من المعاناة، 8 ساعات من الضيعة إلى صيدا، ثمّ 8 ساعات من صيدا إلى بيروت. كلّنا بعضنا فوق بعض، من دون حتى شربة مياه”، تروي فاطمة. هي التي رافقت 24 شخصاً من عائلتها الكبيرة في سياراتهم الخاصة إلى العاصمة اللبنانية.

يقول أخوها حسن (17 سنة): “لا نعرف أحداً في بيروت فتوجّهنا ليلاً إلى كورنيش البحر في المنارة، وعندما سمعنا أنّ وزارة التربية فتحت المدارس للنازحين لم نكن نعرف في أيّ اتّجاه نذهب”.

تحكي فاطمة أنّ أشخاصاً متطوّعين من بيروت جاؤوا إليهم ورفضوا أن يمكثوا على الطريق: “أعطونا مياهاً وطعاماً وساعدونا على الانتقال إلى مدرسة مفتوحة… لم تكن توجد فرش لننام، فجلبوا لنا ما تيسّر. الأطفال ناموا، لكنّنا لم نَذُق طعمَ النوم بعد”.

فجأة نسمع صوتاً قويّاً عميقاً وبعيداً ونحن على إحدى شرفات المدرسة. يصرخ الأطفال “غارااا. غارة. غارة”. تصرخ سيّدة: “ضربة في الغبيري. يا الله. يا الله تستر”. تحضن فاطمة أولادها الخائفين مطمئنة إيّاهم: “نحن هنا في أمان لا تخافوا”. الكلّ يستنفر. واحد يتّصل بأهله في الضاحية وآخر يتّصل بأهله في البقاع لأنّ غارة أخرى وقعت في تمنين التحتا في بعلبك. الكلّ يحاول طمأنة مَن حوله، لكنّ الإرباك سيّد الموقف.

أمّا أمّ عليّ فتعترف أنّها ليست بخير: “هذه ليست المرّة الأولى التي ننزح فيها أو نهرب من الحرب. لكنّ هذه الحرب هي الأعنف، وعدد الشهداء أعلى بكثير ممّا كان عليه مثلاً في حرب تموز 2006. أنا هربت من الجنوب إلى الضاحية ثمّ إلى هنا. لم نعد نحتمل بهدلة ولا تعصيباً ولا توتّراً، لكنّنا نحاول أن ننجو”.

لا يخاف زوج أمّ عليّ من الجوع أو النوم في العراء، فهو يعتبر أنّ “اللبنانيين لا يتركون بعضهم، وفي مثل هذه الأجواء يتضامنون ولو كانوا غير متّفقين على قرار الحرب لإسناد غزّة”.

موجات حرارة وإسهال

تدخل سيّدتان تسكنان في الجوار ومعهما عُلب كرتونية ملوّنة فيها دوناتس وكرواسان. تعزّ الدنيا على فدوى، النازحة الستّينيّة التي ترفض أن تأكل أو تتحرّك منذ وصولها: “لا نريد طعاماً ولا أيّ شيء. نريد فقط الأمان والعودة إلى بيوتنا… نحن أصحاب رزق وعائلات ولنا أراضٍ وعقارات. لكنّ الحرب فُرضت علينا، والنزوح فُرض علينا”.

تربِّت على كتفها جارتُها في الصفّ المجاور. تغمرها قائلة: “الله لا يترك أحداً. ونحن هنا لمساندة بعضنا”. وتطلب منها أن تهدأ. وهنا تدخل عليا، سيدة ثلاثينية أنيقة متبرّجة، وفي يدها أكياس من الأدوية للأطفال. فيما تحمل جارتها شراشف. تشير في حديثها لـ”أساس” إلى أنّها لم تستطع الجلوس أمام شاشة التلفزيون: “شعرت بأنّ بشراً يحتاجون إلى مساعدة فأتيت ووجدت كثيراً من الأطفال يعانون من الإسهال والحرارة المرتفعة، فأتيت بعلب بانادول للأطفال و”فلاجيل” وأمصال لمعالجة الإسهال”. وأردفت صديقتها: “الناس بقيت ساعات طويلة في الشمس وحرارة الطقس مرتفعة، هذا عدا عن الرهاب والخوف والقلق. الأطفال خائفة ومرعوبة، وهذا يرفع حرارتهم ويصيبهم بـ”تروما”.

سلطة الأمر الواقع

على بعد أمتار من ثانوية رمل الظريف الرسمية، وعلى مقربة من حديقة الصنائع، تصل ظهراً شاحنات تنقل فرشاً إسفنجية وشراشف قطنية، كأنّ ما يحدث “فلاش باك” إلى عام 2006. في المنطقة نفسها وفي الشوارع نفسها لجأ أهالي الجنوب في حرب تموز. يعيد التاريخ نفسه.

بكاميرا الفيديو نحاول تصوير المشهد الذي أعادنا وأعاد أهالي المنطقة إلى المعاناة والتهجير ونوع من الإذلال. “عائلات تترك منازل فخمة مجهّزة بأحدث الأدوات الكهربائية والمفروشات، والأهمّ بالذكريات والحبّ، فجأة ترى نفسها خارج المنزل وخارج المنطقة وخارج الزمان، في مدارس غير مجهّزة بأيّ شيء، وصفوف ليست للسكن. هذا وحده إذلال”، يقول أحد المارّة الذي التقيناه في الصنائع معتبراً أنّ “إسرائيل مجرمة، وهذا نعرفه جيّداً، لكنّ الانجرار وراء الحرب أمر خطر”.

بينما نحاول دخول مدرسة رمل الظريف نلتقي شابّاً يعرّف عن نفسه بأنّه من شباب الحزب ويمنعنا من التصوير: “ممنوع تصوير الشباب، ممنوع تصوير النازحين”. نعرّف عن أنفسنا بأنّنا صحافيون، ونطلب منه أن نصوّر النساء وكبار السنّ والأطفال لسؤال خاطرهم وعمّا يحتاجون إليه وكيف وصلوا إلى هنا ومن أين أتوا. أسئلة بديهية وغير سياسية. يرفض. ثمّ يعلو صوته. ثمّ يأتي شبّانٌ آخرون ويطلبون منّا حذف ما صوّرناه من بعيد لشاحنة الفرش والشراشف. نرفض. فيطلبون أن يأخذوا الموبايل. نحاول طمأنتهم إلى أنّنا لسنا هنا إلا لنقل الحقيقة كما هي وحاجات الناس. فيسألنا: “وما هو هدفكم؟ وكيف تخدمون النازحين؟ هم ليسوا بحاجة إليكم، لديهم كلّ شيء وزيادة. الشباب يوفّرون لهم كلّ شيء”.

نصرّ على التصوير، فيقول شخص لم يفصح عن اسمه ولا هويّته ولا وظيفته إنّه “من شباب الحزب” ويطلب منّا بعد التعريف عن أسمائنا واسم المؤسّسة تصريحاً خاصّاً من وزارة الإعلام. نتّصل بوزير الاعلام فلا يجيب. ثمّ تأتي سيّدة بعباءة سوداء وتقول لنا بلطف إنّ “هذه أوامر من فوق”. فيتوجّه إليها ذاك الشابّ بالقول: “اسأليهم هل يحبّون السيّد؟”. عندها يعلو صوتنا ونرفص تصنيفنا والسماح لنا بالتصوير وفق ميولنا السياسية وانتماءاتنا الطائفية، ونقول لهم: “لا يحقّ لكم سؤالنا عمّن نحبّ ومن لا نحبّ. نحن هنا في مهمّة رسمية صحافية وإنسانية، ولسنا بمحاكمة حزبية، ولا في جلسة ودّية. لا نحبّ أحداً يصنع الحرب”.

إقرأ أيضاً: لبنان تُرِك وحيداً.. باريس وطهران تبادران في نيويورك

نخرج من المدرسة والكثير من الوجع على النازحين يخالجنا، والكثير ممّا لا يتّسع المقامُ والمقالُ لقوله اليوم.

مواضيع ذات صلة

لبنان تُرِك وحيداً.. باريس وطهران تبادران في نيويورك

لبنان تحت النار. لم يعد السؤال هل ندخل الحرب أم لا. نحن في صميمها متروكون لتلقّي عقاب عدم تلبية النصائح الدبلوماسية السابقة بفصل جبهة جنوب…

مناقلات داخل الحزب استعداداً لـ “الثّأر”

عبر ضرباته الأمنيّة والاستخبارية القاسية جداً التي أصابت رأس القيادة العسكرية للحزب يحقّق العدوّ الإسرائيلي ما لا يمكن لاجتياح برّي بالمفهوم الكلاسيكي أن يُحقّقه. تتدحرج…

هل ينجح الحزب بتجاوز الصدمة الكبيرة؟

على الرغم من حجم الضربة القاسية التي تلقّاها الحزب وبيئته يومَي الثلاثاء والأربعاء الماضيين من خلال عملية تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي، ومن ثم يوم الجمعة…

الحزب بين فتويَيْن: “تكتيك خامنئيّ” و”سُمّ الخُمينيّ”..

تُصرّ حكومة بنيامين نتنياهو على أنّ هدفها من الضّربات التي تشنّها على الحزبِ دفعه لوقفِ ما يُسمّيه “جبهة المُشاغلة والإسناد” تحت عنوان “إعادة سكّان الشّمال…