فيما التصاعد يأخذ مساراً خطيراً في حرب إسرائيل ضدّ قطاع غزّة ويتمدّد بشكل دراماتيكي مفجع صوب لبنان، كان لا بدّ من موقف سعودي حاسم جازم يضع نقاطاً على حروف المآلات المتوخّاة لهذه الحرب وطبيعة مراميها. ووسط تزاحم التسريبات وتدافع التصريحات عن نضوج “إنجاز” تاريخي برعاية إدارة البيت الأبيض، خرج وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بردّ واضح في معالمه وصيغه ومفرداته، يقطع أيّ اجتهاد تتبرّع به العواصم وتسرّبه الصحف الدولية الكبرى. المعادلة القديمة الجديدة الدائمة هي: لا تطبيع مع إسرائيل من دون قيام دولة فلسطينية.
روّجت الصحافة الأميركية، خلال الأشهر الأخيرة، لتقارير مكثّفة أسهبت فيها في حشر معلومات “رسمية” عن قرب التوصّل إلى اتفاق استراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية يتضمّن، من ضمن ما يتضمّن، إقامة السعودية علاقات مع إسرائيل. استندت تلك المعلومات إلى تصريحات علنية صدرت عن البيت الأبيض، كما عن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان. وسرّب بعض هذه المعلومات مدير وكالة المخابرات الأميركية وليام بيرنز. زاروا جميعهم المملكة في أوقات مختلفة، وتعاقبوا على إثارة هذا الملفّ من زوايا مختلفة، وبدا أنّ في الإلحاح والعجلة حاجةً داهمةً لإدارة الرئيس جو بايدن.
فيما التصاعد يأخذ مساراً خطيراً في حرب إسرائيل ضدّ قطاع غزّة ويتمدّد بشكل دراماتيكي مفجع صوب لبنان، كان لا بدّ من موقف سعودي حاسم جازم
كان الرئيس المرشّح جو بايدن (قبل أن يسقط هذا الترشّح) يحتاج إلى تحقيق اختراق تاريخي في الشرق الأوسط يكون جزءاً من حملته الانتخابية. ارتكب بايدن خطيئة “لن تغتفر” حين وعد خلال حملته الانتخابية السابقة أن يجعل السعودية دولة “منبوذة”. هرع لاحقاً في تموز 2022، زائراً للرياض، يكاد يستجدي مغفرة عن إثم مضى. استمعت المملكة إلى ضيفها الذي يبشّر بفتح صفحة جديدة مع المملكة. حمل الرجل أيضاً ملفّاً قديماً عن شرق أوسط جديد يكون تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل أصلاً له.
مصدر سعوديّ.. عن “السّعوديّة الجديدة”
يخبرني مصدر سعودي عن مسار هذا الملفّ منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. يضيف أنّ “السعودية الجديدة” تصغي للمشهد الدولي ومصالح الشرق والغرب وتقيس موقفها بناء على قدسية “الثوابت” وحركية المصالح. وعلى الرغم ممّا تمّ تداوله وأُشيع حتى كاد يكون مسلّمة، لم توفّر الرياض مناسبة للتعبير عن الموقف الرسمي والنهائي من قضية فلسطين وقضية التطبيع. تحدّث الملك سلمان بن عبد العزيز بكلمات واضحة. وعبّر وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بنصوص جازمة. وتولّى وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان، في أيّ مناسبة تأكيد المؤكّد والإصرار عليه.
كان واضحاً أنّ واشنطن تدفع بالأمور إلى حدّ الوهم. في أيار 2024، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إنّ “الولايات المتحدة والسعودية اقتربتا جدّاً من إبرام اتفاقيات في مجالات الطاقة النووية والتعاون الأمنيّ والدفاعي”. ثمّ أوضح، خلال جلسة استماع بمجلس النواب، أنّ “وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقيات قد يتمّ بعد أسابيع”، محذّراً من أنّه “لا يمكن الشروع في عملية التطبيع على نطاق أوسع، ما لم يتحقّق هدوء في غزة وما لم يُعبَّد الطريق لإقامة دولة فلسطينية”. ومضت أسابيع كثيرة مذّاك.
“السعودية الجديدة” تصغي للمشهد الدولي ومصالح الشرق والغرب وتقيس موقفها بناء على قدسية “الثوابت” وحركية المصالح
الأمير محمّد: الدّولة الفلسطينيّة… قبل الاتّفاق
تحدّث مسؤولون في الإدارة عن تطوّر نوعي في هذا الملفّ، حتى إنّ صحيفة “وول ستريت جورنال” نشرت في حزيران الماضي أنّ إدارة الرئيس بايدن تقترب من إتمام معاهدة أمنيّة مع السعودية، تلتزم بموجبها واشنطن بالدفاع عن المملكة، في مقابل خطوات لتحسين العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وإسرائيل. تشمل الصفقة أيضاً اتفاقاً على برنامج نووي مدني للسعودية، وتحرّكات نحو إقامة دولة فلسطينية، وإنهاء الحرب في غزة. ويتطلّب التصديق على المعاهدة أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ الأميركي. ومعلوم أنّ واشنطن تتعذّر بصعوبة إقناع الثلثين بالاتفاق من دون “التطبيع”. كان ذلك في حزيران.. وكان لا بدّ من “إعلان دولة” في قلب صرح من صروح الدولة.
في 18 تشرين الأول 2024، أعاد وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تأكيد موقف المملكة بـ”عدم إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون قيام دولة فلسطينية”. ويعتبر هذا الموقف، من خلال خطاب يلقيه بالنيابة عن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، بمنزلة “إعلان دولة” بهذا الشأن. أتى هذا الموقف في مناسبة سياسية داخلية كبرى هي افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى الذي يعتبر برلمان المملكة، بمعنى أنّ الموقف يمثّل الدولة ومؤسّساتها السياسية ويُعتبر توجيهاً من أعلى سلطات البلاد بشأن العناوين السياسية الكبرى للمملكة والثوابت المتعلّقة خصوصاً بالقضية الفلسطينية.
في 18 تشرين الأول 2024، أعاد وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تأكيد موقف المملكة بـ”عدم إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون قيام دولة فلسطينية”
القضيّة الفلسطينيّة تتصدّر اهتمام السّعوديّة
في خطابه، أعلن الأمير محمد أنّ “القضية الفلسطينية تتصدّر اهتمام” المملكة السعودية، بما يعني أنّ فلسطين قضية أساس وليست فرعاً في صياغة السياسة الخارجية السعودية، وأنّها أصل في بنود أيّ اتفاق استراتيجي يجري التباحث بشأنه منذ شهور، ومن خلال مستويات مختلفة من المبعوثين الأميركيين، بعد بدء الكلام عنه مع الرئيس الأميركي جو بايدن في الزيارة التي قام بها للرياض قبل عامين.
جدّد وليّ عهد المملكة السعودية “رفض المملكة وإدانتها الشديدة لجرائم سلطة الاحتلال الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني”. ويعتبر توقيت تجديد هذه الإدانة موقفاً منتقداً لواشنطن بسبب تعايشها مع حالة الإبادة التي تنفّذها إسرائيل في غزّة وما تخطّط له في الضفة الغربية من جهة، ومساعيها لإبرام اتفاق استراتيجي أميركي سعودي من جهة أخرى.
حتى لا يحصل أيّ لغط أبجدي في “إعلان دولة” بهذا المستوى، استخدم الأمير محمد عبارات واضحة في معانيها القانونية ومغازيها السياسية من أجل التأكيد أنّ المملكة “لن تتوقّف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية”.
يعيد الأمير محمد تأكيد الموقف السعودي منذ المبادرة الأصلية السعودية للملك عبد الله بن عبد العزيز، التي تحوّلت إلى مبادرة عربية للسلام صادقت عليها قمّة بيروت عام 2002
ماذا يعني موقف وليّ العهد في هذا التّوقيت؟
– أوّلاً: يعيد الأمير محمد تأكيد الموقف السعودي منذ المبادرة الأصلية السعودية للملك عبد الله بن عبد العزيز، التي تحوّلت إلى مبادرة عربية للسلام صادقت عليها قمّة بيروت عام 2002، لجهة مبادلة السلام بقيام دولة فلسطينية مستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية.
– ثانياً: يبدّد الخطاب لغطاً جرى الترويج له في تصريحات سابقة صدرت عن منابر متعدّدة تحدّثت عن قيام علاقة سعودية مع إسرائيل “شرط إطلاق مسار لا رجعة عنه نحو إقامة دولة فلسطينية”. وقد أوحت هذه الصيغة بأنّ المطلوب “مسار” لا توقيت لنهاياته من أجل إقامة “دولة” وليس بالضرورة “دولة” المبادرة العربية.
– ثالثاً: يجزم هذا الموقف للأميركيين أن لا اتّفاق استراتيجياً (في عزّ هوسهم بالخطر الاستراتيجي الصيني) مع الولايات المتحدة حتى لو تضمّن اتفاقاً دفاعياً أمنيّاً ورعاية لبرنامج سعودي نووي، إذا لم يشمل قيام “دولة فلسطينية” عاصمتها “القدس الشرقية”. وهي المدينة التي سبق لواشنطن في عهد إدارة الرئيس ترامب أن اعترفت بكلّيتها عاصمة لإسرائيل.
– رابعاً: في توجّه وليّ العهد السعودي “بالشكر إلى الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية تجسيداً للشرعية الدولية”، وحثّ باقي الدول على القيام بخطوات مماثلة، ما يعني أنّ السعودية ليست طرفاً خارجياً داعماً للفلسطينيين في إقامة دولتهم فقط، بل هي معنيّة بذاتها بإقامة هذه الدولة بصفتها مطلباً سعودياً وتوجّه الشكر لدول العالم الداعمين لهذا المطلب في خيارات المملكة.
إقرأ أيضاً: مكاسب نتنياهو على حساب واشنطن ومصداقيتها
تأتي المناسبة السعودية في توقيت يعلن فيه رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنّ حربه الغزّيّة واللبنانية هي مسار صوب تغيير الشرق الأوسط. لسان حال الرياض في النقاط والحروف أن لا شيء سيتغيّر في هذه المنطقة من دون أن تقوم للفلسطينيين دولتهم، ولا انخراط كلّياً وطبيعياً لإسرائيل في المنطقة من دون هذا الواقع وهذه الحتمية.
لمتابعة الكاتب على X: