في حين يغرق لبنان تحت وابل الصواريخ الإسرائيلية التي دمّرت مناطق إضافية ومساحات واسعة في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، مخلّفةً أكثر من ألفي لبناني بين قتيل وجريح، ومهجّرةً عشرات الآلاف من بيوتهم… أعلن وزير خارجية إيران سيد عباس عراقجي أنّ بلاده “مستعدّة لبدء محادثات نووية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك إذا كانت الأطراف الأخرى راغبة في ذلك”، حسبما ورد في القناة الرسمية للنظام على تليجرام”.
وفيما كان يعرض التفاوض مع أميركا، جاءه الردّ من إسرائيل التي أشعلت الجنوب والبقاع. بينما لبنان متروك وحيداً يتخبط بدماء أبنائه، وسط الركام والرعب”.
إسرائيل كانت أعلنت أنّها تفضّل الحلّ الدبلوماسي. وكذلك فعلت إيران التي تعتبر عدم الانجرار إلى الحرب إفشالاً لمخطّط إسرائيلي بوضعها في مواجهة حربية مع أميركا، بحسب الوزير الإيراني نفسه.
يُضاف إلى هذا، اعتداد المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل بالضربات التي وجّهتها للحزب، يصاحبه التشديد على أنّ هدفها حمل الحزب على التراجع. والأخير لا بدّ من أن يحسب حساباً لما سينتج عن انتقال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى نيويورك، من مفاوضات مع الجانب الأميركي.
“معركة الحساب المفتوح” التي أعلنها نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم أوّل من أمس لا تعني إهمال حسابات التفاوض. فمناسبة تشييع القائد العسكري إبراهيم عقيل كان لا بدّ من أن تقترن بإعلان الاستعداد للمواجهة. ومن دون هذا الاستعداد، يصبح التفاوض من موقع المهزوم، لا سيما أمام الجمهور الواسع للمقاومة.
يخفي التصعيد الذي لا يتخطّى سقف الحؤول دون الحرب الواسعة، اختباراً للتفاوض، في الأسابيع المقبلة، على ضوابط جديدة للعمليات العسكرية
ملاقاة الحزب لجمهوره واستعادة الرّدع
صدمة المناصرين من فداحة الضربات الإسرائيلية، والخسائر في صفوف المدنيين، أعقبها الشعور التضامني برفض الانهزام. فهذا الجمهور أدمن على سردية متعدّدة الخلفيّات الأيديولوجية والدينية والسياسية تقنعه بحتميّة النصر والتفوّق على العدوّ.
هذا على الرغم من أنّ الحزب يواجه في الوقت نفسه تململ بيئته الواسعة التي تحتضنه منذ سنوات، من زجّها في معركة إسناد غزة والخسائر الفادحة التي تتعرّض لها. وموجة التهجير الجديدة جرّاء قصف اليومين الماضيين في الجنوب ستزيد من هذا التململ. ومع ذلك يصعب على جمهوره المباشر الانفصال عن سردية النصر والتفوّق لأسباب عدّة، منها الخشية الضمنية من أن يتأثّر موقع الحزب وحلفائه سلباً في المعادلة الداخلية.
تقصّد الحزب مواكبة هذا الشعور بإثبات عدم تأثّر جهوزيّته في الردّ بإطلاقه عقب التشييع كمّية من الصواريخ على حيفا ومحيطها، وباستخدامه صواريخ جديدة سمّاها فادي-1 وفادي-2 استهدفت قاعدة “راميت دافيد” الجوّية وإصابة أبنية مدنية أراد من خلالها استعادة قدرته الردعية، إضافة إلى تحقيق أهداف عدّة، منها:
– تطبيق معادلة استهداف المدنيين مقابل قتل إسرائيل مدنيين أثناء تفجير أجهزة الاتصال أو في الغارة على ضاحية بيروت الجنوبية ضدّ قادة قوّة الرضوان.
– أن يثبت لجمهوره أنّ الضربات التي تلقّاها لم تعطّل قدرته على إيذاء إسرائيل على الرغم من تفوّقها الكبير الذي أثبتته الأسبوع الماضي.
– إبلاغ القادة الإسرائيليين بأنّهم لم يشلّوا قدراته على إنزال الخسائر بالدولة العبرية على الرغم من تفوّقها التكنولوجي والاستخباري والتدميري والدعم الغربي.
صدمة المناصرين من فداحة الضربات الإسرائيلية، والخسائر في صفوف المدنيين، أعقبها الشعور التضامني برفض الانهزام
ترميم الأوراق التّفاوضيّة
– أن يزوّد طهران بورقة الصمود العسكري لأحد أهمّ أذرعها في الإقليم، في التفاوض المفترض عبر القنوات كافّة بما فيها نيويورك.
أبعد من ذلك سعت طهران وأذرعها إلى تزويد بزشكيان الساعي إلى التفاوض مع واشنطن بأوراق قوّة، قبيل انتقاله إلى نيويورك، بما يتجاوز لبنان. فطهران أعادت الفصائل العراقية الموالية لها إلى حلبة الردود على إسرائيل بعدما كانت أبعدتها عنها خلال الشهرين الماضيين. فالجانب الإيراني تفهّم حاجة بغداد إلى تهدئة المواجهة مع الجانب الأميركي وبالتالي إسرائيل. لكنّ إطلاق الميليشيات الموالية له (فصيل “النجباء”) 15 طائرة مسيّرة أول من أمس نحو مواقع إسرائيلية في إيلات وغيرها، ليس بعيداً عن ترميم إيران أوراقها التفاوضية على المستوى العسكري.
فتحت سقف الحؤول دون توسيع الحرب زيارة قائد حرس الثورة في إيران إسماعيل قاآني بغداد الأسبوع الماضي للاجتماع إلى قادة الفصائل. وبعد الضربات القاسية التي تلقّاها الحزب، من غير الواقعي استبعاد أن تكون اجتماعات قاآني في بغداد شملت عودة الميليشيات العراقية إلى حلبة استهداف إسرائيل، والعودة إلى استخدام الساحة السورية للقصف على المواقع العسكرية في الجولان المحتلّ.
سعت طهران وأذرعها إلى تزويد بزشكيان الساعي إلى التفاوض مع واشنطن بأوراق قوّة، قبيل انتقاله إلى نيويورك، بما يتجاوز لبنان
الحرب النّفسيّة تتغذّى بالضّربات العسكريّة
تشكّل خطوات التصعيد التي يقوم بها الحزب والفصائل الإيرانية والحوثيون جزءاً من عملية استعادة بعض قوّة الردع. والحرب النفسية لا بدّ أن تواكبها باستغلال المفعول الإعلامي لإطلاق الصواريخ والمسيّرات. تضخيم إسرائيل نجاحها في قصف عشرات منصّات الصواريخ في أودية الجنوب اللبناني، وتكثيفها القصف في الأيام الماضية، لهما مفعول معنوي ونفسي إضافة إلى الجانب العسكري. فحكومة بنيامين نتنياهو توظّف ضرباتها الاستثنائية لطمس سجالات المساءلة حول جدوى استمرار الحرب في غزة والضفة وشمال إسرائيل. والحزب بدوره يحتاج إلى تعظيم ردوده أمام جمهوره. الضربات في الجانبين تغذّي آثارها المعنوية على الجمهور في جانبَي الحدود. فكلاهما يعد الآخر بالمفاجآت ويعتدّ باحتفاظه بقدرات لم يستخدمها بعد.
الضّربات بخدمة التّفاوض؟
كان لافتاً قول الشيخ قاسم أول من أمس في معرض تكراره ما أعلنه الأمين العام للحزب عن مواصلة جبهة إسناد غزة، إنّه “بين الحين والآخر نقتلهم ونقاتلهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون”. وهو ما دفع مراقبين إلى القول إنّ ترك الخطوات العسكرية للحزب إلى “الحين والآخر” يتيح له انتقاء التوقيت الذي يتزامن مع وتيرة التفاوض المفترض مع إيران. وكذلك يمكنه ملاءمة هذه الخطوات مع درجة التصعيد الإسرائيلي المفتوح على الاحتمالات كافّة. فنتنياهو ينوي مواصلة ضرباته مستفيداً من الفسحة الزمنية التي تتيحها له الأسابيع الباقية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية لإنجاز ما يستطيع:
– ففي الضفة الغربية يعمّق تنفيذ خطّته تفريغ مخيّماتها وجعلها غير قابلة للحياة.
– وفي لبنان يهدف إلى تجريد حماس من الدعم، وإفقاد طهران من أوراق التفاوض أو في المواجهات العسكرية.
– وفي غزة يتهيّأ لتنفيذ خطّته للتحكّم بإدارة القطاع بعدما أبلغ الكنيست بأنّه حقّق 90 في المئة من الأهداف العسكرية فيه، ويشدّد على رفض تسليمه للسلطة الفلسطينية.
– مقابل تقديمه الخدمات لواشنطن بقتله مطلوبين لها من الحزب، انتقاماً لأدوارهم في تفجير السفارة الأميركية ومقرّ المارينز عام 1983، أخذ نتنياهو يوسّع ضرباته.
يسعى نتنياهو إلى إدارة مباشرة لغزّة، بما يحبط مفعول أيّ إسناد لها من قبل إيران، سواء من جبهة لبنان أو من العراق أو اليمن.
تشكّل خطوات التصعيد التي يقوم بها الحزب والفصائل الإيرانية والحوثيون جزءاً من عملية استعادة بعض قوّة الردع
هل يستفيد لبنان من التّفاوض الإيرانيّ الأميركيّ؟
إلا أنّ وظيفة جبهة لبنان في تعزيز أوراق إيران التفاوضية تتعلّق بمدى استعداد واشنطن لفرض وقف النار على نتنياهو. وإمكان إفادة لبنان من أيّ تفاوض أو تسويات مفترضة بين واشنطن وطهران يحول دونه الربط المستمرّ من قبل الحزب لتطبيق القرار الدولي الرقم 1701 بوقف الحرب على غزة.
حتى الجانب اللبناني، وعلى لسان وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، بات يربط رسمياً تطبيق هذا القرار بالقرار الدولي الرقم 2735. والأخير ينصّ على وقف النار في غزة الذي تمتنع واشنطن عن ممارسة ضغوطها على نتنياهو لتنفيذه وفق خطّة الرئيس جو بادن التي أعلنها في 31 أيار الماضي.
إقرأ أيضاً: هل ينجح الحزب بتجاوز الصدمة الكبيرة؟
الهامش الذي يمكن للدولة اللبنانية أن تتمتّع به في التفاوض على التهدئة عبر التفاوض على تطبيق القرار المخصّص للجنوب بات ضيّقاً جدّاً، وقد يكون منعدماً ما لم تتوقّف الحرب في غزة وفي ظلّ التماهي الرسمي مع شروط الحزب.
لمتابعة الكاتب على X: